مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

العمارة.. تطور الأنساق والأنماط

الأسئلة التي عادة ما تطرح في مجال العمارة تدور حول الكيفية التي تتطور من خلالها الأنماط، و(الطرز) المعمارية. وهل يعني (النمط) التكرار، أم أن له بنية جوهرية قادرة على توليد التنوع الذي يحتاج له البشر في حياتهم اليومية؟
في البداية دعونا نذكر أن فكرة الطراز أو النمط المعماري أو غير المعماري من فنون وعلوم وحتى مظاهر اجتماعية؛ هي فكرة مرتبطة بشكل مباشر بحاجة البشر إلى تعريف الأشياء وتمييزها عن بعضها البعض. فإعطاء الأنماط والطرز مسميات، مثل العمارة في الحضارة الإسلامية أو العمارة الأيوبية في الشام أو العمارة الأحسائية، على سبيل المثال، يوحي ذلك بتدرج يتجه إلى التبعيض والتخصيص، فالعمارة في الحضارة الإسلامية شبه كونية، وتشير إلى عمارة حضارة ممتدة من وسط آسيا إلى الأندلس. بينما العمارة الأيوبية في الشام تشير إلى عمارة محددة في فترة محددة، وقد تشمل عدة مدن. لكن العمارة الأحسائية تشير إلى مكان معين، لكنها لا تحدد زمناً محدداً.
تدور دراسات الأنماط في العمارة في حلقات مختلفة المحيطات، يحتوي أحدها الآخر، وتتدرج من الأنماط الكونية، مثل البوابة والشباك، إلى الخاص جداً مثل البوابة في العمارة النجدية التقليدية.
إذا ما سلمنا بأن الأنماط المعمارية تنبني على بنية جوهرية مولّدة، أي أنها بنية قادرة على توليد الأشكال وإنتاجها بشكل دائم؛ سوف يجعلنا هذا نتساءل عن (الاستخدام) أو أنماط الاستخدام المرتبطة بالأشكال المعمارية. المهتمون بدراسة الأنماط المعمارية يذكرون ثلاثة أنواع من الأنماط: الأشكال، الاستخدام، المعنى؛ لكنهم يرون أن أنماط المعنى غالباً ما تأتي مع أنماط الأشكال والاستخدام. الإشكالية الأساسية في أغلب الدراسات المعمارية في الحضارة العربية/الإسلامية أنها تصنف الأنماط المعمارية حسب الأشكال، وتهمل الاستخدام والمعنى. هذه الإشكالية قادت العمارة في المنطقة العربية إلى القشرية، والاهتمام بالمظاهر الشكلية، وإهمال الأسباب التي أدت إلى نشأة هذه الأشكال وأسباب تنوعها. ومع ذلك يجب أن نذكر أن أنماط الاستخدام عادة ما تستحضر دراسة المكان وتدرّجه وتصنيفاته، ليس فقط لأنه فضاء، بل حجم ثلاثي الأبعاد، مما يجعل من الأشكال وأنماطها مكوناً أساسياً في دراسة أنماط الاستخدام في العمارة.
من ناحية أخرى، العمارة فن معاش يقوم على التجديد والابتكار والتنوع، وفكرة (خلق الأنماط) توحي بالثبات والتكرار والسكون. قد يرى البعض تناقضاً في هذا، فكيف للعمارة أن ترتكز على التنوع والابتكار وفي الوقت نفسه هي ظاهرة مولّدة للأنماط. سوف نعود إلى مقولة مشهورة هي (التنوع في إطار الوحدة)، وهذه المقولة، على وجه الخصوص، استخدمت لوصف ظاهرة التكرار في العمارة في الحضارة الإسلامية، وكذلك جميع العمارات التاريخية، وتعني أن هناك إطاراً للوحدة (النسق)، لكنها وحدة تولد أنماطاً متنوعة أو سلالات من الأشكال والفضاءات التي تصنع استخدامات مختلفة وتولد معاني متنوعة. هذه الظاهرة على وجه الخصوص تمثل أحد أهم الظواهر المعمارية التاريخية، ونقصد هنا القدرة على توليد سلالات من الأشكال ترتبط بنمط واحد يعبر عن هويته مباشرة. إحدى الدراسات قامت بتحليل أنماط الزخارف في الأحساء، وتوصلت إلى وجود 60 سلالة مختلفة تتدرج من القوة والقدرة على توليد الأشكال والانتشار إلى سلالات ضعيفة تابعة للسلالات القوية، وعادة ما تندمج معها وتذوب فيها.
يدور جدل منذ فترة طويلة حول الفرق بين النسق Pattern والنمط Type، خصوصاً في الدراسات العمرانية التي تشمل النسيج الاجتماعي/الثقافي والنسيج العمراني المادي (الفراغي والبصري). يصطدم هذا الجدل مع تعريف كل مصطلح، فالمهتمون بالدراسات العمرانية يرون في النسق (حلاً) مجرباً، اكتسب ثقة الناس عبر الزمن، فأصبح حلاً مستقراً يملك بنية جوهرية Innate Structure تمكنه من التكيف مع الظروف الطبيعية والاجتماعية المختلفة، وبالتالي فإن النسق يمكن أن يولد أشكالاً متعددة، يمكن أن نطلق عليها (سلالة النسق). بهذا المعنى يصبح النسق حلاً مجرباً مستقراً في الذاكرة الجماعية لأي مجتمع قابل للاستعادة والتكيف مع ظروف التغيير الطبيعي والثقافي. بينما الأنماط هي الصور المادية التي يتمظهر بها النسق، أي أن كل نسق يولد أنماطاً مادية متعددة تشكل (السلالة) التي يمكن للنسق أن يولّدها. فمثلاً بوابة المسكن هي (نسق)، إذ لها بنيتها الجوهرية التي تدل عليها في جميع الثقافات، لكن أشكال البوابات وصورها تختلف من مكان إلى آخر، بل حتى في المكان نفسه، وهذا ما نطلق عليه النمط الذي يشكل أحد الأعضاء في سلالة النسق الكبيرة.
الحقيقة أن التعريف في الأعلى هو ما توصلت إليه عبر الدراسات المعمارية الإثنوغرافية التي قمت بها خلال الربع قرن الأخير، وهو تعريف يختلف قليلاً عما يراه الزملاء في (النقد الثقافي) الأدبي، فالدكتور سعد البازعي يعرف النسق على أنه (انتظام مجموعة من الدلالات أو الإشارات اللغوية في بنية واحدة، وهذا يعني أن النسق مفهوم بنيوي، لأن البنيوية نشأت للبحث عن الأنظمة الدلالية المضمرة سواء في اللغة أو النظم الاجتماعية/ الثقافية). أحد أهم الفروقات بين مفهوم النسق في النقد المعماري والنقد الثقافي هو أن الأنساق في العمارة لها دلالات مادية ظاهرية، تحمل صوراً بصرية، وبهذا فهي تولد سلالات من المنتجات المادية التي يجب أن تكون أنماطاً تنتظم في عائلة النسق الكبيرة، وتشير بشكل أو بآخر إلى الثقافة المادية التي ينتمي لها النسق. لكن يمكن أن نلاحظ أن مفهوم النسق يبقى (بنيوياً) لكنه في حالة العمارة يمثل (حلاً وظيفياً) أو (بصرياً) استقر اجتماعياً وثقافياً وأصبح جزءاً من الذاكرة المستعادة التي غالباً ما توظفها المجتمعات لتبني حلولاً مقبولة ثقافياً على نطاق واسع.
حاولت أن أبحث أكثر عن النقاط المشتركة بين تعريف النسق وتحديد حدوده، بين النقد المعماري والثقافي؛ فوجدت أن هناك فرقاً جوهرياً أساسياً، نشأ من طبيعة المجال العلمي لكل تخصص: فالعمارة تتعامل مع المادة وتفسرها ثقافياً، وهذه المادة هي عبارة عن فضاء وصورة، ويوجد علاقات متشابكة بينهما داخل مادة العمارة الواسعة؛ بينما النسق في النقد الثقافي هو تعبير لا مادي، قد يحمل أحياناً القدرة على تصويره مادياً، لكن بشكل غير أكيد، أي أنه حالة فكرية/ ثقافية، ينتظم فيها المجتمع وما ينتج عنه من لغة وأدب في نسق محدد قابل للتغير والتكيف والتطور. فمثلاً بعض الأنساق المعمارية تحمل أنماطاً متبوعة وأخرى تابعة، ويمكن اكتشاف هذا التراتب من فكرة الاحتواء، فغالباً الأنماط المتبوعة تحتوي التابعة وظيفياً، وهذا ليس خياراً، بل هو (فرض وظيفي)، ولا يمكن الخروج عنه وإلا تفكك النسق بوصفه حلاً مجرباً ومستقراً. لا أعلم إن كانت الأنساق في النقد الثقافي تحمل صفات قريبة من الأنساق العمرانية، لكن الأكيد أن هناك فروقات جوهرية بين النسق الثقافي المحض والنسق العمراني الثقافي.
إحدى الملاحظات المهمة التي قادت إلى فهم الفرق بين النسق والنمط في العمارة هي وجود أشكال بصرية متعددة لمشكلة وظيفية واحدة، فالنسق في العمارة غالباً ما يرتبط بالوظيفة، بينما الثقافة والتقنية والمناخ هي التي تولد الأنماط التي هي في الأساس المسؤولة عن الهوية المعمارية التي تتميز بها كل منطقة تاريخياً. بنية النسق العمراني تكمن في الوظائف البيولوجية للإنسان، فالبوابة نشأت لأن الإنسان يحتاج إلى المرور بين مكانين، لكن عندما تقترن الحاجات البيولوجية بالثقافة والجغرافيا والتقنية تولد أنماط مادية مختلفة، وكل جغرافيا وثقافة لها أنماطها، لكنها جميعاً تنتمي إلى النسق العمراني المجرّب المرتبط بالحاجات الوظيفية. هذا التصور لم أجد ما يقابله في النقد الثقافي الأدبي، ربما لكون الحاجة الوظيفية البيولوجية يصعب تتبعها خارج النسق العمراني الذي نشأ أساساً ليلبي هذه الحاجات.
الملاحظة الأخرى، وأعتقد أنها ضرورية من الناحية المنهجية؛ أن النسق العمراني يتطلب منهجاً نقدياً تفكيكياً، ربما يختلف عن النقد التفكيكي الثقافي، فنحن في العمارة نفرق بين التفكيك dismantle في المنهج التحليلي الذي يتطلب تفكيك الظاهرة العمرانية من الناحية المادية للوصول إلى الأنساق التي تكوّن الظاهرة، وبين التفكيكية deconstructionism التي هي منهج فلسفي أصبح جزءاً من الفكر والممارسة المعمارية في الثلاثة العقود الأخيرة. النقد العمراني التفكيكي إذاً ليس له علاقة بفلسفة (جاك داريدا)، بل هو منهج تفكيكي مادي للبحث عن الأنساق وسلالات الأنماط التي تكونها عبر الزمن، ثم إعادة تركيبها وربطها بالثقافة.
يمكن اعتبار هذا المقال محاولة لتقديم فكرة النقد الثقافي العمراني الذي لا يجد أصواتاً كثيرة تدعمه في الخطاب الفكري العربي المعاصر.

ذو صلة