مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الخط العربي بريق المعمار الإسلامي ووجهه الأجمل

إن هذا الفن العظيم الذي ضم بين أركانه وفي زواياه خيالات النشاط الإنساني، هذا العمل الإنشائي التكويني والمنتج البشري الذي بات يخدم في ذات الوقت الأنشطة الإنسانية المتنوعة، لهو تعبير وظيفي يوضح تأثير القيم والتقاليد على الحياة اليومية، حيث جاءت العمارة في الحياة نتيجة لحاجة الإنسان إلى التكيف مع بيئته، وتحقيق الأمان المادي تجاه ظواهر الطبيعة وإشباع حاجاته الرغائبية والنفسية، قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلأَرضِ وَٱستَعمَرَكُم فِيهَا)، وقوله جل شأنه: (وَلَكُم فِي ٱلأَرضِ مُستَقَرّ وَمَتَٰعٌ إِلَى حِين).
وبذلك أصبحت العمارة فناً، وارتقت حتى أصبحت تعرف عند قدماء اليونان بأنها أم الفنون (Architecture is the Mother all of Art)، حيث إنها اشتملت على توظيف أغلب أنواع الفنون على أسطحها وواجهاتها الداخلية والخارجية، ولم تقف قيمة العمارة عند الجانب النفعي فقط، فالعمارة إلى جانب أنها توفر فراغات وظيفية لتأدية نشاط محدد، وتبرز جماليات الفنون الإنسانية تمثل قيمة عالية، بسبب ما تخلقه في نفس المستعمل من متعة فنية جمالية في ذاتها وتكويناتها، الأمر الذي أدى إلى تعريف العمارة بأنها المرآة الصادقة التي تنعكس عليها ثقافة الشعوب ونهضتها وتطورها ورقيها.
إن المسلمين في عصور انتشارهم استنبطوا نظاماً معمارياً متكاملاً من التشكيلات والتراكيب المعمارية والزخرفية التي تكون في مجموعها الطراز الإسلامي الموحد في روحه وطابعه، فجاءت تلك العمارة العربية الإسلامية تعبيراً جمالياً لدى الإنسان من رؤية فريدة ومتميزة تجاه الواقع والمساحة والتاريخ والزمن، بل والأمة نفسها، وأيضاً نحو ارتباطه العضوي بكل هذه العوامل.
ولقد فرضت الهوية الإسلامية طابعها على كل العمارة الإسلامية في شرق العالم الإسلامي وغربه، وطبعت بطابعها المميز، حيث جاء توجه أغلب المعماريين نحو الطابع الزخرفي المتمثل بالرقش والفسيفساء والزخرفة والخطوط العربية مما أضفت طابع الأصالة والجمال.
ومن هنا ليس غريباً أن نجد كثيراً من الطرز لمختلف العمائر الإسلامية سواء كانت مساجد، أم قصوراً، أم قلاعاً، أم مدناً إسلامية كاملة تعبر عن خصائص فنية وجمالية وتاريخية، منها تجلت عبقرية الفنان المسلم وسمو روحه، التي استمدها من روح الإسلام فسرت في كل إنشاءاته وصبغت كل أعماله بها، متفقة مع تعاليم الإسلام وفلسفته وطبيعة الرقعة العربية.
تكامل هذا الثراء الفني الضخم الذي يتمتع به فن الخط العربي وقابليته للتوظيف التصميمي، ومدى قابليته لاتخاذ نسب تتفق مع الغرض المستخدم من أجله، كلها معطيات تجعل من الخط العربي مادة غنية يمكن استخدامها واستثمارها في مجالات الزخرفة المعمارية، ومن هنا استطاع الفنان المسلم أن يبتكر أشكالاً جمالية لا عد لها ولا حصر في مختلف مجالات الفنون، متصفةً جميعها بالتجريد الرمزي الذي يسعى إلى الجمال الكامن خلف الشكل الطبيعي، وكان هذا السعي يعد نوعاً من التأمل والاستغراق للوصول إلى عالم المطلق ومحاولة تكشف أسراره وإبداعاته في الكتل المعمارية، والزخارف والخطوط لم تعد إلا وسيطاً بين الإنسان والمطلق.
نموذج من الخط الكوفي على العمارة الإسلامية
لقد جاء الاهتمام بالخط العربي، لارتباطه بالعقيدة الإسلامية ومصدرها القرآن الكريم. حيث كتبت آياته ونمقت والخطوط العربية المختلفة، وحمل قدسية معاني كلماته وآياته، وهذا ما دعا الخطاطين إلى الاهتمام به وتطويره والاعتقاد بأن العناية به في كتابة آياته واجب ديني يقربهم من الله عز وجل ويأخذهم إلى المعاني التي يحملها ويدخلهم إلى عالم المطلق، خاصة وأن الحروف العربية كانت أشكالاً تجريدية تحمل معاني بيانية ذات دلالة بالنسبة للمسلمين، وكانت بذلك مادة خصبة تعينهم على كشف الجمال المطلق، ومن هنا يتبين لنا اشتراك العمارة الإسلامية مع الخط العربي في فلسفة جمالية واحدة مستمدة من روح العقيدة الإسلامية والمحددة لفلسفة الجمال الإسلامي.
إن فن الخط العربي بأنواعه المختلفة وارتباطه عضوياً بالعمارة الإسلامية أحد أسباب تحقيقه للإيقاع المتميز للكتلة ولم تخرج الحلول الإبداعية بالربط بينهما بعيداً عن تحقيق الوحدة والتوازن والتنوع... ذلك بالإضافة إلى أن أشكال الخط العربي قد أضافت تنويعاً في النسب الجمالية باعتبارها عنصراً أصلاً في الزخرفة المعمارية الإسلامية. وأنه ليس مجرد عنصر تكميلي أو تجميلي، إنما هو عنصر له ارتباطه العضوي القوي بالبناء ويمتلك قيمته في إكساب البناء هويته المميزة، وبهذا يتضح لنا العلاقة الترابطية بين كل واجهات العمارة الإسلامية والخطوط العربية في الجانب الجمالي التشكيلي، حيث يخضع كل منهما لأسس تشكيلية ثابتة تسهم في تحقيق مجموعة من القيم التصميمية الجمالية الخاصة بالفن الإسلامي.
ساهم الخط العربي في لعب دور مهم على الآثار المعمارية الإسلامية والمتمثلة في واجهاتها، حتى أصبح أحد أهم العناصر الرئيسية المكملة لجماليات واجهات العمارة الإسلامية، وقد اكتسب الخط العربي هذه المكانة المهمة نتيجة اشتراكه مع فن العمارة الإسلامية، وبخاصة الواجهات في فلسفة جمالية واحدة، هي الفلسفة الجمالية الإسلامية، التي تسعى إلى الوصول إلى الجمال المطلق، واشتراكهما في الأسس الإنشائية المحققة للقيم الجمالية التصميمية والتشكيلية، وفي صفة التجريد الرمزي التي تميز عناصر كل منهما أيضاً، كل ذلك ساهم كثيراً في تفهم الفنان والمصمم الإسلامي إمكانية الجمع والتوافق فيما بين الخطوط العربية المتنوعة ومن العمارة الإسلامية والمتمثلة في واجهاتها الخارجية على وجه الخصوص.
إن شيوع فكرة مضاهاة خلق الله تعالى، وكراهية الفنان المسلم لها، أظهرت محاولاته للوصول إلى حلول جمالية بديلة ومبتكرة، كانت السبب الرئيسي إلى ذهاب الفنان المسلم إلى الخط العربي واستخدامه زخرفياً وقد ساعده على ذلك طواعية وقابلية حروف الخط العربي للتشكيل، إذ لم يلعب الخط دوراً في فنون العالم كالذي لعبه الخط العربي في الفنون الإسلامية بصفة عامة وفي فن العمارة الإسلامية وواجهاتها بصفة خاصة.
الخط العربي على واجهات قصر الحمراء
لعب الخط العربي على واجهات العمارة الإسلامية دوراً وظيفياً وجمالياً كبيراً حين استخدمه الفنان المسلم كعنصر زخرفي مكمل لجماليات العمارة، فنرى الخط بجانب وظيفته التسجيلية للنصوص القرآنية والتاريخية والجنائزية، استطاع أن يشغل الفراغات في واجهات العمارة الإسلامية ويقسمها إلى عدة مساحات متنوعة الملامس بفعل التنوع في أساليب التشكيل في كتابة النصوص وأحجامها وأنواع الخطوط المستعملة فيها، مما خفف ثقل مادة البناء في تأثيرها على نفس المشاهد مع الحفاظ على الضخامة في الكتل وما تعطيه من رهبة وشموخ للمبنى المعماري.
كما استطاع توظيف الحروف العربية -بما تحويه من طاقات حركية كامنة- أن يحول السطوح الساكنة إلى سطوح متحركة في ذهن المشاهد، من خلال تجميع الحروف ذات الاتجاهات الحركية المتشابهة والتأكيد عليها في الأماكن الملائمة لها، والتي تحقق قدراً مناسباً من التوافق مع اتجاهات الحركة الكامنة للعناصر المعمارية المؤلفة للواجهات، وتؤكدها أو تتعارض معها بما يفيد الجانب الجمالي للواجهات، وعليه باتت الخطوط العربية بما تملكه من خصائص ومقومات تشكيلية عاملاً أساسياً في تحقيق وتأكيد القيم التصميمية الجمالية في واجهات العمارة الإسلامية وبصورة متوافقة مع النظام الإنشائي لتلك الواجهات، مما ساعد في تكوين علاقة ترابطية بين الخط العربي والواجهات.
وأخيراً، يمكننا القول إن انتشار فن الخط العربي ساهم في تأكيد هوية العمارة الإسلامية وإكسابها طابعاً مميزاً يميزها عن فنون العمائر الأخرى، كما استطاع أن يحافظ على هوية الشعوب الإسلامية المختلفة في تلك العمائر وواجهاتها، وذلك من خلال استخدام أساليب وأنواع الخطوط العربية التي ابتدعتها وأبدعت فيها أيادي الخطاطين في كل قطر لتجميل واجهات العمائر الإسلامية بها، وإن كان هذا لا يعني فقدان العمارة الإسلامية لطابعها العام، فإنه وبالرغم من الاختلافات في الأساليب المحلية كان استخدام فن الخط العربي في العمارة هو عنصر التجميل الذي وحد الأنواع المختلفة من المباني في العالم الاسلامي، وذلك من خلال وحدة شخصية الحرف العربي رغم اختلاف صوره وأشكاله، إضافة إلى ما سبق ذكره من الخصائص التشكيلية والفنية التي أتاحت له فرصة الترابط بفنون العمارة الإسلامية المتنوعة.

ذو صلة