مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

العمـارة الإسلامية وفن المرونــــة

يشهد العالم ومنذ أمد طويل، موجات فكرية مختلفة الألوان ومتضاربة الاتجاهات، ألا وهي (globalization)، وتحمل في ظهرانيها مبادئ الخير والرفاهية، وإشاعة العدل والمساواة، والمحبة والأخوة والسلام، اشتهرت بين الباحثين بالعولمة، وهي تعني تعميم الشيء واكتسابه الصبغة العالمية، وتوسيع دائرته لتشمل العالم أجمع بغية دمج الهويات، وتخطي حدود الخصوصيات، وسيطرة الماديات على كل الروحانيات والأخلاقيات، بمنظور عالمي يفرض نفسه بأمر الواقع. هي تتبنى توحيد المبادئ بالتحول الفكري في كافة المجالات، ومنها الحضارة بشقيها الثقافي والمدني.
والعمران هو مرآة الحضارات، لذا يعد من بواكير ضحايا التحولات الفكرية. والتاريخ الإنساني خير دليل على ذلك، مثل تأثير الحضارة الرومانية في شمال أفريقيا، والهلنستية في الشرق الأوسط، والإسلامية في الصين وإسبانيا، والفكر الرأسمالي نتج منه الطراز العالمي. ومما لا شك فيه أن أقطار العالم الإسلامي وعماراتها المكانية تأثرت بهذا الفكر، وإفرازه المعماري. ودخول العالمية في العمارة أسدل ظلاله على أنماط الحياة الاجتماعية والمعتقدات والسلوكيات الحياتية برمتها، وأدى ذلك إلى اختفاء التقليدية في العمارة، والتي كان يصنعها الإنسان، فأصبحت هي التي تصنعه وتشكله كيفما تشاء. إذا أردنا للعمارة الإسلامية أو عمارة المسلمين أو العمارة في الإسلام، سمها كيف تشاء؛ إذا أردنا لها القوة والمتانة ومنافسة العولمة علينا التركيز على جوهرها وليس مظهرها، وإلا لذابت تماماً، ولاسيما أن العمران عامة هو عصارة أو خلاصة عدة عوامل تختلط أو تنصهر مع بعضها.
كل متتبع لتطور العمارة وعلومها يعرف تماماً أن هنالك اختلافاً فكرياً فلسفياً بين عدة مدارس معمارية، لكن بكل ما في تلك المدارس من تباعد فلسفي، هنالك قواسم مشتركة بينها ليس فيها خلاف، بل إجماع على العناصر التي تعطي العمارة الكينونة والهوية والصبغة الذاتية، ولولاها لما كانت العمارة. وهذه العناصر والمحددات لها أعمدة وأركان تقوم عليها، يمكن استخلاصها من الآية الكريمة: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً...الآية)) (سورة البقرة الآية 30)، وبالتمعن في هذه الآية الكريمة من وجهة نظر معمارية يمكن استخلاص ثلاثة أعمدة لعمارة الأرض، حيث أن (إذ) تدل على الماضي، وتكون اسماً للزمن الماضي، وتمثل العمود الأول (الزمان)، وفي كل زمان تقنية معينة للبناء ومواد بعينها.. وغيرها، وهي تحد من خيال المعماري لأنه يجب عليه معرفة الكيف. أما الخليفة، وهو العمود الثاني، وبلا شك هو (الإنسان)، فهو معمر ذلك المكان في ذاك الزمان، وهو صاحب تلك الثقافة التي تولد ذلك النشاط الذي تحدده الوظيفة، وهو يحتاج لحيز يكفي لممارسته بالطريقة التي تفي بالوظيفة. الإنسان هو محدد الحياة الاجتماعية المؤثرة على العمارة، وهو ممول تلك العمارة التي تعكس الحالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وهو الذي يتأثر ويؤثر سلباً أو إيجاباً بذلك اللون المعماري المعين والطعم المميَّز والمميِّز لتلك الحقبة في ذلك المكان. والأرض هي (المكان)، ومنه تتضح المؤثرات المناخية، والقدرة الاستيعابية الفراغية، والبيئة المحيطة والذاتية، وطبوغرافية الأرض، ومميزات التربة، والشكل والمقومات المكانية، وهذه الجزئيات مجتمعة تعطي العمارة التمييز المكاني.
والغاية العظمى من خلق الإنس والجن على حد سواء هي عبادة الله سبحانه وتعالى، ولا يتحقق معنى العبادة حتى يصبح كل عمل بني آدم لله وحده، ومن هذه الأعمال عمارة الأرض، إذن إعمار هذه الأرض يجب أن يتم على أسس كنفها وغايتها عبادة الله وحده بمرونة كافية لتصلح لكل زمان ومكان، علماً أن العمران في أصله من قبيل المصالح المرسلة، والتي لم يرد فيها نص قطعي، ولكن عمارة الأرض التي كلف بها الخليفة (الإنسان) لم تترك على الهوى، بل ضبطت وحكمت بقواعد شرعية قياسية كانت أم اجتماعية، ومن القواعد الفقهية التي ضبطت عمارة الأرض حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) بكل أنواعه، ضرر الدخان والرائحة والصوت والضجيج.. كلها تعتبر من محددات استعمالات الأراضي، وعلاقة النطاقات ببعضها، مثل المنطقة السكنية بالمنطقة الصناعية، كما أنه يؤثر مباشرة على علاقة الفراغات والمكونات والأنشطة في أي وظيفة معمارية معينة لأي كتلة بنائية. ويحتم على المعماري استعمال الحيل في التصميم. وهذا يقودنا تلقائياً إلى تأثير الحديث على النطاقات في المستويين التخطيطي والتصميمي.
الخصوصية هي خاصية مستوحاة من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وتبدأ بتوفير خصوصية الأسرة من العامة، ودرء ضرر كشف الحرمات والتعدي على الخصوصيات، وتم ذلك باستعمال المداخل المنكسرة أو غير المباشرة وتنكيب الأبواب المواجهة لبعضها البعض والتوجه الداخلي في التصميم. والهدف الرئيس منها هو عدم الاختراق البصري من المارة، وهنا يظهر الاستئذان للدخول أو الاختراق. حيث ظهر ذلك في تخطيط المدن في تدرج الفضاءات. وعلى المعماري الإلمام بالقاعدة الفقهية والإبداع في ابتكاراته التصميمية.
حق الجار من المحددات المستوحاة من هذه القاعدة الفقهية، وتمت مراعاتها في ارتفاعات البنيان وارتفاعات الأسطح وجلسات الشبابيك المطلة على الجيران ومعالجتها لتوفير الخصوصية لكليهما، والارتدادات وعدم حجب الهواء أو الريح عن الجار، ففرضت علينا وضع قوانين ولوائح التصميم والبناء، وتوفير الوسطية من منظور معماري، وأعنى بها ذلك المقياس الذي يمكّن الطرفين أو المتناقضين من عبادة الله بإعمار الأرض، الفقير منهم والغني، الغربي منهم والشرقي، العربي منهم والأعجمي. الوسطية في العمارة الإسلامية ليست هي عنصر ناتج من تفاعل النقيضين، بل هي التوازن الكامل بين مطالب الدنيا ومطالب الدين، كما هو مبدأ الاقتصاد في العمران.
وبما أن العمارة في الإسلام هي جوهر وليست مظهر بأي حال من الأحوال؛ فاستعمال الزخرفة بشقيها البنيوي والتطبيقي، وبكل أنواعها هندسية كانت، ورقية، عضوية أو كتابية؛ هي عناصر جمالية تعطي العمارة بعداً آخر مقبولاً، ما لم تقع في محظور، والجمال في الإسلام هو جمال التوحيد.
وفي تصميم المساجد، هنالك قواعد فقهية خاصة ببناء المساجد، استنبطت من المصادر الفقهية، يجب التقيد بها عند تشكيل المسجد، وذلك من باب سد الذرائع، ومنها: استقبال القبلة، اعتدال وتسوية الصفوف، فضل الصفوف الأولى، توسط الإمام والصلاة بين السواري. كما أن هنالك عناصر معمارية أساسية تستعمل في تصميم المساجد كالأبواب والمداخل، بالفصل فيها بين الجنسين، وكذلك المحراب بصرف النظر عن شكله، والمنبر هدفه تعليم الناس أمور دينهم، هذا بالإضافة إلى قاعدة التواضع، وعدم التباهي، والتطاول.. وغيرها. كما أن هنالك عناصر معمارية اشتهرت بها العمارة الإسلامية، وأهمها القباب التي استعملت لتسقيف البحور الواسعة، والعقود التي استعملت للحلول الإنشائية، والأقواس المقرنصات والأروقة والرواشن والملاقف والسبل.. وغيرها، وهي عناصر مبتكرة أو مستحدثة أو مقتبسة من الحقب السابقة للإسلام، ولا تتناقض مع النهج والقيم الإسلامية، وبما أنه لا مانع من استعمالها في العمران بعد الإسلام أصبحت من معالمه على مر التأريخ.
جميع هذه العناصر المعمارية كانت حلولاً وسبلاً ووسائل ابتكرها المعماريون للوصول للهدف المنشود، وهو تطبيق القيم الشرعية في العمارة بمختلف وظائفها، وفي أي زمان ومكان. يعنى ذلك أن وجودها هو تأكيد للجوهر وليس مجرد مظهر أو عنصر جمالي، وكثير منها كان موجوداً قبل ظهور الإسلام. وذلك على مر العصور الإسلامية حتى تصلح وتليق وتمكن المسلم وغير المسلم من الحياة.
فالمعمار ليس وليد الخيال المطلق، ولا الواقع الجامد؛ بل هو خلاصة وعصارة لانصهار عدة عوامل ومحددات وعناصر، منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير. وهذه العناصر بكل اختلافاتها وتجانسها، تمثل حدود العمارة الإسلامية التي تتميز بقدر كافٍ من المرونة، يمكنها من الوجود في أي زمن ومكان، ما دام هنالك إنسان مقتنع بتلك الثقافة، لأنها هي عمارة الجوهر وليست عمارة المظهر فحسب كما يعتقد البعض، وذلك لأن اكتسابها أو اتصافها بتلك الصفة (إسلامية) نتج من تطبيق الثقافة المقتبسة من القيم والموجهات والمحددات التي أتى بها الإسلام في العمران. وهذه العناصر والعوامل فيها من المرونة والليونة والمطاوعة الكفاية اللازمة لاستيعاب البُعد الخيالي لكل معماري حتى يبتكر ويولد الشكل الذي يراه بخياله وتحده وتقيده الحقائق. وهذا التقييد ليس تقييداً مطلقاً، ولكنه حمى مملكة المعمار، ولولاه لما كانت العمارة نافعة للإنسان الكائن بالمكان في ذلك الزمان. وهذه العوامل مجتمعة يمكن تمثيلها بالبالون ذي الجدران المطاطية المرنة واللينة، والذي يتحمل النفخ فيه بقدر البعد الخيالي للمعماري، ولكن بحدود تحمل الضغط الداخلي لذلك النفخ، وعندما يتخطى خياله حدود مقاومة الجدران المطاطية يؤدي إلى تلفها، وتلك الجدران المطاطية هي القيم والموجهات والمحددات التي تم استخلاصها من مصادر الشرع الإسلامي، وهي التي أعطت صبغة (إسلامية) لذلك النوع من العمران.
وهذه العوامل تختلف مع اختلاف الزمان والمكان والإنسان، ولكن عامل واحد يمكن أن يكون ثابت المعالم والصفات والأصول، مهما اختلفت العناصر الثلاثة الآنفة الذكر، والتي تشكل العمران؛ وهذا العامل هو: العامل الروحي.

ذو صلة