مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

سواكن الجزيرة.. الميناء اللغز

لطالما شكل ميناء سواكن لغزاً محيراً بالنسبة لي، أتأمل حال هذه المدينة بعمق فتوحي لي بالعديد من الخواطر. جوانب عديدة منها تحمل في ثناياها أكثر من معنى. أنظر إلى شكلها في صورها الجوية. هي مرتبطة بجسر رفيع بالبر، المدينة الرئيسة على الشاطئ الآخر. تشبه في نظري إلى حد بعيد الجنين في بطن أمه مرتبطاً بها بالحبل السري. أتأملها من زاوية أخرى هي تطفو في خليجها الداخلي، المضطجع باسترخاء على مساحات مسترسلة من الحجر المرجاني. خامة البناء الوحيدة الرئيسة المتاحة التي استخدمت مكعباتها لتشييد المباني. علاقة عضوية جعلتني أتأمل هذه الحالة برؤية فلسفية. جعلتني أشعر أن هذه المدينة الجزيرة نشأت كنبتة طبيعية، أو أنها خرجت من خليجها الصغير ذاك كما تخرج عرائس البحر الأسطورية. أتأمل هنا ألق وسحر ذلك الحجر المرجاني، خامة البناء الوحيدة المتاحة التي منحت مظهر المدينة الجزيرة وحدة وتماسكاً مبهراً، على الرغم من تعدد تنوع طرازات مبانيها.
تلك المدينة التي تعاقبت عليها قوى خارجية من أركان الدنيا فرضت سيطرتها منذ عصور الفراعنة والرومانيين القدماء حتى عصور حديثة نسبياً مثل حقبة الحكم الثنائي البريطاني المصري مروراً بالتركية السابقة. جهات غازية محتلة تركت كل واحدة منها بصمتها على عمارة الميناء الجزيرة. أمر كان بلا شك سيفرز طرازاً معمارياً مشتت الهوية. موقف تصدى له الحجر المرجاني، الخامة البنائية الوحيدة المتاحة على مدى العصور التي أمسكت بزمام طرازات كل تلك القوى والإدارات الوافدة بشكل أريب ترك دائماً هامشاً لكل واحدة منها لتترك بصمتها. بانوراما معمارية وثقت لمسيرة تاريخية متطاولة، نجح فيها الحجر المرجاني إلى حد بعيد في فرض وحدة وتماسك عمارة المدينة ومنحها طابعاً متميزاً.
رغم تعاقب من حكموها من قوى خارجية عظمى منذ عصور ضاربة القدم، احتفظت سواكن إلى حد بعيد بهويتها الإسلامية العربية التي تركت بصمتها البائنة على كل المستويات. أحزن جداً أحياناً عندما يوصف تخطيطها العام بأنه عشوائي. حكم متعجل جائر مؤسس على شكل توزيع الشوارع في تخطيطها العام المتوافق إلى حد بعيد مع تخطيط مدننا العربية القديمة. فعلى الرغم مما تبدو عليه من عشوائية إلا أن لها دلالات مهمة للغاية، إذ إنها إلى حد بعيد تشع من سوق المدينة قلبها النابض، ليس فقط بالنسبة للمدينة لكن لأجزاء عديدة من سودان الأمس الذي كانت سواكن تغذي شرايينه من موقعها بالغ التميز. كبوابة لذلك الجزء من السودان وأجزاء بعيدة منه للعالم الخارجي. كالشرق الأوسط والأدنى والأقصى. سوق كانت تصطخب فيه الحياة. بحشود من سكانها وزوارها والعابرين بمينائها. نظرة لجانب آخر من جوانب هذه الشوارع، لضيق شوارعها وتعرجاتها. تجد له تفسيراً مقنعاً للغاية. إنها بذلك تنشر مساحات من الظل تمنح مجالاً كافياً للقاءات الرجال خارج بيوتهم. ليمنحوا لنسائها وضيوفهم مزيداً من الخصوصية داخل البيوت. عرفت أيضاً أن هذه التعرجات محسوبة بدقة. لاستدراج نسمات هواء البحر الرطبة عندما تشتد درجات الحرارة في موسم الصيف الطويل.
كان تصميم بيوتهم وعمارتها الداخلية بكل تفاصيلها، يهدف في الأساس إلى المحافظة على تقاليدهم وقيمهم الإسلامية. وذلك عبر تصميم طابقي البيت، الأرضي والأول الأعلى. كان يسمى الأرضي السلاملك والثاني الأعلى الحرملك. مسميات معبرة كما سيتضح لنا لاحقاً. مدخل البيت عبر فناء مفتوح متوسط المساحة مرتب جيد الإعداد. تزيد مساحته في بيوت أعيان البلد وأثريائها لتسمح بمساحة جانبية لربط دواب زوارهم. يقود ذلك الفناء الخارجي لصالة استقبال مفتوحة عليه، جيدة التأثيث مزخرفة الجدران، تحفة بلغت فخامتها في بيوت بعض الوجهاء درجة تنافس فيها القصور لتشكل مع ذلك الفناء منطقة استقبال مشرفة مرحبة بالزوار، معبرة بتصميمها المرتب المنفتح ومكوناتها الرحبة المهيأة المشرفة عن اسمها، السلاملك. ينهض في جانب من ذلك الفناء الأمامي قرب مدخل البيت سلم خارجي صغير مفتوح يقود للجزء الأعلى من البيت، المخصص لربة الدار ونساء الأسرة وزوارهم من أهلهم وصويحباتهم المخصص لهن هذا الجزء العلوي من البيت. الحرملك إشارة للحريم أي النساء. هو عبارة عن غرفة طويلة في شكل صالة جيدة الإعداد والترتيب والتأثيث مع لمسات (ديكور) بديعة، يقدم تصميمها الداخلي كل مكوناتها وتفاصيلها درساً بليغاً في العمارة الداخلية. تتجلى عظمتها في تعدد أنواع استخداماتها بشكل ممتاز، كصالة استقبال ومعيشة أيضاً غرفة نوم التي تدعمها مكونات ثانوية شبه خارجية، تمنحها عدة إطلالات على أجزاء أخرى من البيت في الطابق الأرضي، أيضاً بنفس القدر على عالمهم الخارجي؛ الشوارع المحيطة بالمنزل وأجزاء المدينة المجاورة.
واحدة من تلك المكونات الخارجية المعلقة من الصالة توفر إطلالة على فناء البيت الخارجي في السلاملك. تسمح بها من على البعد لقاعة الاستقبال. تتيح إلى حد ما لنساء البيت بمتابعة ما يجري فيه، فيتسع إطار عالمهم، إذ ينعمن بكامل خصوصيتهن في صالة الحرملك في طابق البيت العلوي الذي تقوم فيه مكونات شبه خارجية على الجانب المطل على الشارع بأدوار لا تقل أهمية مختلفة، إذ إنها منفتحة على عوالم أرحب شأنها في ذلك شأن المدن العربية في ذلك الزمان التي ضاعف من اصطخابها وضع المدينة كميناء مهم حقبتئذٍ، اجتذب أطياف البشر من كل حدب وصوب. وضع معقد للغاية كان يجب أن تستوعبه وتتعايش معه نساء البيت في إطار دورهن في الأسرة. أمر ساهمت فيه بشكل غير مباشر تلك المكونات شبه الخارجية الناهضة والمعلقة في واجهة الجزء الأعلى من البيت المخصص لهن المطل على الشارع، المصممة بطريقة هندسية مميزة تسمح لهن بإطلالة مخفية على ذلك العالم الخارجي الذي تحد قيمهم وتقاليدهم من التفاعل معه بشكل مباشر. عوضتهن عنه إلى حد كبير تلك المكونات المصممة بطريقة عبقرية، جعلتهن يعشن أجواء ذلك العالم الصاخب وهن في خدرهن في حضن حرملك دارهن، عبر تصميم تلك المكونات بطريقة بالغة الذكاء من خلال نوعين من الإطلالات؛ الأولى تمنحها لهن وحدة مثبتة أمام النافذة في إطار خشبي بديع التصميم يسمح لهن باتكائه على العالم الخارجي، كما يهبها لهم بسخاء أكثر نوع آخر من تلك المكونات المعمارية، وهي شرفة بلكونة خشبية فريدة التصميم ناهضة أمام الواجهة. معلقة كأنها وحدة قائمة بذاتها شبه مقفلة، بروزها والنوافذ في جوانبها تمنحها إطلالة بانورامية على العالم الخارجي. أعمال الخشب بأشكالها البديعة في جوانب وسقوف تلك المكونات الخارجية منحتها رونقاً وجمالاً مترفاً خفف من رتابة شكل مكعبات الحجر المرجاني المسترسل في واجهات المباني.
كان شكل تلك المكونات شبه الخارجية الموزعة في واجهات أشبه بالقناديل المصابيح أو أعشاش الطيور، بالذات عندما تطل منها على استحياء نساء الدار، مقتنصات فرصاً تخفف من تأثير ضوابط مجتمعية صارمة كانت تحد من خروجهم خارج الدار. شكل تلك المكونات الخشبية الملتفة بعناية حول فتحات الأبواب والنوافذ يشبه إلى حد كبير زي نسائهم. عودة مرة أخرى لتفاصيل تلك المكونات شبه الخارجية التي تعرف بالمشربيات، كانت تفاصيلها الخشبية الرائعة تتناغم مع الحجر المرجاني في بعض أجزاء الواجهات، تحديداً العليا منها التي تتوج هامات المباني وتغازل الأفق وتساهم مع تفاصيل أخرى عديدة تناضل لكسر رتابة مساحات الحجر المرجاني المنتشرة في أحياء المدينة وأرجائها مكونة كلها جبهة واحدة لتأكيد وتعزيز بصمة تراث العمارة الإسلامية عبر مساهمات عربية وتركية عثمانية وقفت متحدية للتراث (الكولنيالي) البريطاني في مرافق سلطة احتلالهم في المدينة. لم تقف المساهمات الخشبية بمفردها في هذه المعركة، إذ دعمتها وساندتها مكونات أخرى متنوعة لا تقل عنها ألقاً وروعة وتعبيراً، ممتطية صهوة عدد من الخامات. الجص أو الجبص جنباً لجنب مع الحجر الطبيعي. معركة محتدمة كان للمكونات الحديدية فيها أيضاً دور مشهود. تضافرت كلها في انسجام وتناغم بديع لتعزف سيمفونية أروع عمل معماري في ربوع بيوت سواكن تلك المدينة الميناء التي كتبت اسمها بأحرف من نور في تاريخ المدن لكنها أرادت بنفس تداعيات ظهورها تألقها المدهش أن تتلاشى بطريقة صادمة تدعو للدهشة، تتسرب من بين أيدينا تدريجياً شئياً فشئياً بشكل مؤسف للغاية، لم تترك لنا إلا بضع معالم ملامح للذكرى والتاريخ، مخلفة حزناً عميقاً وحسرة.

ذو صلة