مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

المعمار والعمران

من الصعب اختزال تاريخ المعمار المغربي وفنونه، بأشكاله وهندساته، فهو يتميز بعراقته ومرجعياته التاريخية والحضارية والرمزية الدينية، سواء تعلق الأمر بالقصور والدور الكبيرة، أو ما يتصل بالحياة اليومية للإنسان المغربي ومجتمعه وبيئته الجغرافية المتنوعة السهلية والجبلية والصحراوية، وفي كل ذلك تفاصيل أخرى، وأيضاً الجانب السياسي الذي راكمه المغرب بتمدده جنوباً وشمالاً وشرقاً.
بمكن أن نعتبر أن مسألة المعمار بصفة عامة، وأشكاله تكتسي أبعاداً كثيرة حضارية وتاريخية، وقد تكون له صلات بما هو جهوي، وبتاريخ المغرب، وبالحضارة العربية والإسلامية، وأيضاً الإنسانية، ولذلك فهذا يندرج ضمن التراث المادي وأيضاً اللامادي، بحكم الترابط الذي قد يقع ما بين التراثين، ولكن ما يهمنا، هنا، أن الثقافة والحضارة الإنسانية كلها تأسست على مجال العمران، كما يسميه ابن خلدون، ومعناه المتعدد العمران الإنساني أي الحضارة الإنسانية، وتتجلى صوره في بناء المدن والمساجد والكنائس والأسوار والأسواق والمستشفيات، وغير ذلك. وهنا نستحضر تاريخ المغرب الزاخر بهذا التراث بدءاً من الأدارسة وتشييد جامعة القرويين، (أول جامعة في العالم) إلى ما عرفته الحضارة المغربية من تحولات على مستوى المعمار، سواء تعلق الأمر بالأدارسة، أم بالمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين والعلويين، أي كل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، علماً بأن الحضارة، بصفة عامة، غالباً ما تتجه إلى البناء والتشييد، وإلى التفنن والتأنق في المعمار، حينما تكون في أوجها، ولذلك يربط ابن خلدون مسألة البناء واستحداث أشكال البناء المتعددة بصيغ مختلفة، بقوة الحضارة ومنزعها حينما تنتقل من مجال البداوة إلى مجال التمدن. يمكن أن نستحضر هنا الهياكل الكبرى والأهرام العظيمة والبناءات الكبيرة. وهذا الأمر لا يتم من فراغ، فلابد من اجتماع إنساني أي لابد من عدد بشري، يمكن أن يضطلع بهذه المهام وأن يشيد هذه البنايات ما يفرض تعاوناً، ويشير في هذا الصدد ابن خلدون إلى أنه كلما كان عمر الدولة طويلاً استطاعت أن تتوسع في العمران والمعمار، وبالمنطق نفسه كلما كان عمرها قصيراً تراجع عمرانها ومعمارها وخربت، إذاً أمد الدولة وعمرها يعطيها مدة واسعة، بحيث تستطيع أن تتوسع في التشييد من مرافق وواجهات مثل الأسواق والأسوار والأبراج والمساجد والقصور، وكل ذلك يتم بطرق وبنظرة معمارية فنية، وبقدرة فائقة على تكريس وتجسيد هذا العمران معمارياً على أرض الواقع، وهنا ينبغي، أيضاً أن نقف عند ما ذكره لسان الدين بن الخطيب، حيث يشير إلى أن الحمامات، مثلاً، بلغ عددها ببغداد في عهد المأمون أساساً، خمسة وستين حماماً، وكانت تتكون من مدن وأمصار مترابطة ومتقاربة تجاوز الأربعين، مثلما أنه لم تكن المدينة الواحدة يوجد فيها سور واحد. وهذا كله يدل على ما يسميه ابن خلدون بالإفراط في العمران الذي تم في بغداد. علماً بأن عمران المدينة من أسباب، ومن نتائج التوسع الحضاري الذي تعيشه الدول في فترات معينة، ويمكن أن تندرج ضمن ذلك مدن أخرى، مثل فاس ومراكش والقيروان وقرطبة والقاهرة. فالتوسع الحضاري والمعماري يرتبط بقوة الدول، إذ كلما استقرت الدول تمكنت من التفنن في ابتداع وابتكار أشكال كثيرة على مستوى البناء، وكلما انقرضت الدول انكسرت وتهادى معمارها وتخلف الذوق الفني. فإن ذلك ينعكس على المدن فيتراجع المعمار وأيضاً ينكمش، إذاً هذا المظهر الحضاري طبعاً يمكن أن يتجلى أيضاً في نماذج أخرى، حيث مازالت هناك الحضارة العربية بمساجدها ومعمارها وبدورها شامخة ومعبرة عن طبيعة المعمار وهندساته بمرجعياته القيمية والثقافية في الأندلس. وهذا وبنفس المنطق يرتبط بمستوى آخر، بطبيعة البشر، كلما استقروا استقراراً حضارياً وسياسياً واجتماعياً في ظل دولة قوية بدؤوا يفكرون في ابتكار كل أشكال البناء التي تستجيب للذوق الإنساني الرفيع والباذخ ولمتطلبات المتغيرات التي تتم في حضن الدولة. إن الانسان يميل إلى السكون، والبحث عن كل الوسائل التي تحقق الرفاهية، وتعبر عن الذوق، وعن الأفكار والتصورات والتمثلات التي تهمه، إذاً فهذا لا يتم من فراغ وإنما تمليه شروط متعددة، ولذلك فكثير من المدن العربية عاشت هذا النزول وأيضاً مراحل الصعود، إذ لا يمكن للإنسان أن يبتكر، وأن يبني ويشيد في ظل ظروف شروط مختلة، وغير مستقرة، وأوضاع لا توفر الإمكانات التي يمكن أن تستعمل من أجل ذلك، وعليه كلما تقوت الدولة، انتشرت المدن وتزايدت مبانيها ومصانعها، وكل ما يستجيب للمتطلبات الحضارية والتاريخية، وإلى ما يسميه ابن خلدون بالمدن العظيمة والهياكل المرتفعة، بحكم الكثرة والتعاون.
كلما كانت الدولة عظيمة ومتسعة، فإنه بإمكانها أن توفر هذه الحاجيات البشرية والمادية وتسعى الى التوسع في العمران وفي المعمار وفي ابتكار أشكال مختلفة، سواء تعلق الموضوع بالمدن، أم المباني، أم الدور، أم المصانع أم المستشفيات، أم تنظيم الأزقة والمدن...إلخ. وهذا كله يتطلب أشكالاً من الدعم والقوة والصناعة الهندسية، أي إن الحوافز لا تقتصر على الرغبات الذاتية والجماعية، ولكن لتحقيق ذلك لا بد من صناعة هندسية قادرة على التشييد والبناء وفق ضوابط ووفق آليات واضحة، لا تخضع للفوضى ولا الارتجال في التنظيم والترسيخ والترتيب، وغير ذلك من الأسباب التي يقتضيها البناء، نذكر هنا، على سبيل المثال، ما تركه الموحدون في رباط الفتح، وفي قرطاج خصوصاً، تلك الحنايا والزوايا التي كانت سائدة، والتي كانت مخصصة لجلب الماء، وفي الأندلس، وفي عديد من مناطق المغرب، وغير ذلك، مما يمكن أن يندرج ضمن الهياكل والمباني. يمكن أن يتجلى المستوى الفني في البيوت الشخصية بمساحاتها وفضاءاتها وسمكها وقوتها، حتى إن بعض البنايات كانت تبدو بمعمارها وبنظامها الهندسي، كأن الانسان لم تكن له يد في بنائها، وهذا طبعاً، يمكن أن يندرج في إطار التمثلات الموازية لهذه الآثار المعمارية بحكم عظمتها وقوتها وشموخها. كان المؤرخون، أحياناً، أو بعضهم يزعم أن هناك عمالقة أنجزوا وشيدوا هذه البنايات نظراً للمواصفات التي تتصف بها، وللأشكال الهندسية التي أطرت هذا المعمار، إذاً فالمباني دائماً تحتاج إلى التعاون وتوفير القدرة البشرية والتفكير والتخطيط والذوق الفني. يمكن أن نلاحظ أن كل البنايات والآثار القديمة، لا يمكننا أن نعتقد بصددها أنها بنيت وشيدت من لا شيء، أو من قوة محدودة. فالبناء دائماً يفترض وجود شروط مادية وحضارية، وبشرية، علماً بأن الهدم دائماً أيسر من البناء بكثير، فالهدم هو الأصل أي العودة إلى العدم، والبناء على خلاف ذلك يسعى إلى تجاوز العدم، أي أن التأسيس ليس سهلاً، وهنا يمكن أن نعطي أمثلة كثيرة في هذا الباب، كثير من الآثار هدمت وحطمت وكسرت وخربت، وهذه لا يمكن إعادتها بسهولة ويسر. إذن فالبناء بمختلف أشكاله يتطلب ظروفاً ومحيطاً موازياً مساعداً، بشرياً، ومادياً وإرادة قوية لدى الفاعلين وتمكناً جمالياً وعلمياً بمراعاة كل محددات المعمار والرؤى التي تتحكم فيه. وهذا ما يمكن أن نلاحظه في تاريخ المغرب، في التراث الثقافي، من مدن وقصبات وأضرحة وصوامع وجوامع بمختلف أصناف معمارها الذي له هويته الحضارية والتاريخية ومرجعياتها الدينية والثقافية، وكل الآثار بأشكالها وبهندساتها وبالرونق الذي بنيت عليه. فلم يكن الأمر لا سهلاً ولا عفوياً وإنما خضع لاعتبارات كثيرة هندسية، وفنية وجمالية وحضارية، إذاً بصفة عامة ما أود أن أؤكد عليه أن المعمار بكل أشكاله يرتبط طبعاً بالشروط الحضارية والتاريخية التي تمليه.

ذو صلة