مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الحقيبة

أُحس بهم خلفي، يتعقبونني أينما ذهبت، أتلفت حولي، لا يبدو عليهم صفة العنف، حركاتهم سريعة وحذرة.
لن أرتاح حتى أعلم ما يريدون، ولن يدعوني ما دام وقع اختيارهم عليّ.
تعمدتُ ارتياد الأماكن المنعزلة ممهداً لهم الطريق.
ولم يطل بي الحال، ففي مكان عام، تقدم إليّ شخص باذخ الهيبة، وسيم الملامح، حادثني بثقة ولطف.
كانوا يريدونني في مهمة، هكذا وبكل بساطة هم في حاجة إليّ لأقوم بالعملية، فما عساي فاعل وقد تركت مهنة الطب منذ زمن، وتبخرت معلوماتها من رأسي؟
فريق يترك المهنة، وفريق تتركه المهنة، وأنا من الفريق الثاني.
لم يكن هذا كافياً عندهم لاختيار غيري، بل زادهم رغبة في التمسك بي، وعلى حد زعمهم فإنهم فقط يطمعون في أناملي، وأنهم أحضروا أجهزة متطورة تسهل العملية، ولم يبق إلا الرجل المناسب للمهمة، الذي هو أنا في نظرهم.
سلمني الرجل حقيبة كتلك التي يحملها الأطباء، وبدأ شيء يشدني إليه، أتبعه دون تردد، لقد سكن الصراخ في داخلي، وبدأت قوة النداء تدفع بي إلى مجهول أو معلوم، إلى خير أو شر لا أدري، وربما إلى نهاية لتولد البداية، أو إلى خطأ ليخلق الصواب.
وصلنا إلى مبنى شامخ ذي طابع حديث، كان المبنى غريباً عليّ دخلناه دون أن يلحظنا أحد، وعند المصعد توقفتُ بضع سنين لخواطر طافت بي، ثم فُتح المصعد وابتلعني، لا أدري هل بسملت أم لا؟ الدافع كان ينسيني كل شيء.
وتحرك المصعد بسرعة مجنحة ثم توقف، وبدأت رحلة أخرى هي البحث عن الغرفة المطلوبة، وكنت وقتها أتلذذ مزهواً بحمل الحقيبة.
وصلنا إلى غرفة أظن أنني سمعت نداء منها، فأيقنت أنها المقصودة، وفُتحت أبواب الغرفة آلياً، كنت أتوقعها غرفة تليق بطبيب، دخلتها والرجل المهيب يخبرني أن ههنا ستتم العملية.
كانت مظلمة ينبعث من سقفها نور خافت يمازحه دخان يجعله لا يكفي للإبصار بشكل جيد، وكانت خالية من كل شيء، ظللت فيها كمن يقرأ حروفاً غير منقوطة، وبعد مدة حضر الرجل، وقبل أن أسأله أخبرني أن العملية تمت بنجاح، وطلب مني أن أقول لمن يسألني أنني أنا الذي قمتُ بالعملية.
وغمرني وهو يرى صمتي بعبارات الترحيب والتودد مغلقة بما أحسه ولا أعرفه.
- أليس هذا شيء يسير؟
قال عبارته هذه وكأنه قرأ جوابي مسبقاً، فقلت له:
- من قام بالعملية؟
- لا تتغابى أنت بالطبع.
- آه.. صحيح نعم.. نعم.
لمست الحقيبة وتذكرت كل شيء فجاءني توكيده:
- فقط عليك أن تقول أنا من أجرى العملية.
وقبل أن أقول شيئاً أردف قائلاً:
- لا تتردد وقم بنا.
- إلى أين؟
- سترى بنفسك.
في خارج الغرفة احتشدت الطرقات بأشخاص لا أدري متى جاؤوا، يحملون كاميرات وأجهزة متناهية الدقة اخترعها إنسان مغفل.
كانت رغبتهم عارمة لمشاهدتي، حادثتهم بكلام مبهم، فاستراحوا وما استرحتُ.
جررتُ قدميّ إلى المصعد أبتغي الخروج من هذا المكان، بدأ كل شيء يتغير، الدافع في داخلي يعكس اتجاهه بالطرد.
فتح المصعد أبوابه وحتماً سيهوي بي إلى القاع، الحقيبة لا تزال في يدي، تحرك المصعد فاهتز جسدي كله، ثم ألفيت أعضائي تتقطع وتتساقط على الأرض، وتم الأمر دون ألم.
عند الطابق السفلي وقبل أن يفتح المصعد أبوابه، كانت أعضائي متناثرة على أرضية المصعد، وفي سرعة متناهية انفتحت الحقيبة وابتلعت أشلائي، ثم قذفت بي خارج المبنى شخصاً آخر.

ذو صلة