مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

رجازة* وضحى ورماح

(سلمى فيليبس) ذات الشامات الخمس، فتاة لا تبدو لافتة للنظر للوهلة الأولى. تعاني من بدانة في ذراعيها ولا تظهر أظافر واضحة في أطراف أصابعها، فهي تقضمها باستمرار، وتنساها في حوض العجين لساعات طويلة. كسولة في واجباتها ولا يستيقظ عقلها إلا في حصة الموسيقى. غير أنها محبوبة لدى معلمي الثانوية. لمسة المرح والفكاهة التي ميزتها غيرت وجهة نظر بعضهم تجاهها، هذا ما دفع هماً جديداً بدأ يتدفق في دمها. أصبحت تواظب على استيقاظها الباكر كل يوم، تبدأه بكتابة مذكراتها اليومية في حديقة بيتهم الخلفية بعد أن تطمئن على شجرة الجوز الوحيدة التي بقيت بعد الجفاف. الجفاف نفسه أصابها بالعدوى بعد وفاة جدتها لأمها (أنجلينا) حتى صاروا ينادونها بالكسولة العضباء. أنجلينا كانت روح البيت، فقد كانت سلمى مدللتها، كونها البنت الوحيدة من بين أربعة ذكور، الجدة الصبورة زرعت حديقة بيتهم بالكثير من أشجار الموز التي كانت مصدر سعادتها وهي تلف في أوراقها من كل يوم أحد طعام الفقراء الذين كانوا يقفون طابوراً في ساحة كنيسة (الأم ماريا بطرس) سلمى أيضاً كانت ترافقها دون أن تنبس ببنت شفة. تبحلق في عيونهم كعادتها فتحفظ عن ظهر قلب ملامح وجوههم، حتى إذا جن الليل بدأت تخاطبهم في أوراق تجمعها من كراسات الطالبات المهملة، فترسم ما يشبه بالمقاطع الحوارية بينهم. كانت قريبة من صنع خلطة حوار ينشأ بين تلك المجموعات. ماذا لو تحول إلى عمل تلفزيوني؟ أو إذاعي؟ هذا ما كانت تفكر فيه أمها (فاطمة) حين تجدها غارقة في عملها الجديد الذي أحبته. ضاربة بالدروس عرض الحائط. إنها لا تفكر سوى في أشجار الموز وجدتها ووجوه البائسين في باحة الكنيسة. استمرت ثمان سنوات وهي ترافق جدتها من البيت إلى السوق والكنيسة والغابات المجاورة. تعلمت منها كيف تغني وهي تخاطب أشجارها. كيف ترمي ببذور البطيخ بطريقة احترافية مما جعلها تنمو وتمتد حتى سور البيت المجاور. تعلمت كيف تعبئ روحها بالضحكة إن هي زارتها طرفة بعد أن كانت واجمة طوال الوقت. في يوم حار، قاسٍ في لهيبه اكتشفت موتاً بطيئاً ينتشر في أشجار الموز وصديقاتها من الأشجار الأخرى. وبالفعل فقد ماتت مع الأيام بفعل حشرة سامة وصفتها الجدة أنها لعنة تنزلها السماء كلما قطع البشر المزيد من الأشجار. فقد خسرت نيجيريا 1.14 مليون هكتاراً من الغابات. هذا ما جعل سلمى وأمها تلازمان الجدة طوال فترة مكوثها في المستشفى المركزي بعد تردي حالتها الصحية. سلمى لم تتوقف عن عادتها اليومية التي انتقلت إلى المستشفى، والتي فتحت لها آفاقاً من الصور والحكايات والقصص حتى غصت دفاترها المستعملة بالقصص المرسومة في صفحات دون تدوين أي كلمات أو معلومات عنها سوى تواريخ من صنعوا تلك الصفحات النيجيرية كما أسمتها. شخص واحد يبدو أنها ناقمة عليه أكثر من غيره. وجد اسمه مدوناً في آخر صفحة من الكراسة الأخيرة. عنونته بسارق الأرواح. إنه (ماريجي) الذي كان يضع علامات على جذوع الشجر التي قطعها لوحده دون مساعدة أحد، في رسالة منه إلى قاطعي الأشجار الآخرين بأنه المالك لها. بعد ذلك يقوم بنقل الأخشاب عبر الجداول والأنهار على طول الطريق إلى لاجوس. اكتفت سلمى بكتابة هذا التعليق. أما الصور التي رسمتها فكانت فعلاً أشبه بالمذبحة!
ماتت الجدة في يوم صاخب جداً أو ربما حزين على حدٍ سواء. لم يهتم أحد لموتها فالناس منشغلون بالفيضانات التي تضرب البلاد منذ أشهر. جرفت فيها الفيضانات ما لا يقل عن مليوني طن من الأرز، ودمرت 1.2 مليون فدان في ولاية كيبي وحدها، تأثرت محاصيل أخرى مثل الذرة الرفيعة والدخن الذي كانت تصنع منه سلمى فطيرة يوم الجمعة كما هي عادتهم. نصف الأرض قد انفصلت عن الطبيعة وهذا ما لا يعيه ماريجي وغيره من الجشعين. الفيضانات أدخلت البلاد في حالة فوضى وطوارئ في بعض المحافظات والمدن. المهم أن أنجلينا دفنت في ليلة غريبة بعد أن تعذر إقامة قداسها بسبب انقطاع الطرق عن القسيس الذي يعمل في كنيستهم. ودعوها بصلوات تخصها دونهم. فعوضت سلمى ذلك الفراغ بالقصص التي حفظتها من تلك الوجوه ومن تلك التي كانت ترويها جدتها عن تاريخ أجدادها.
الموت حالة صعبة. وتستطيعين أن تتجاوزيها يا سلمى. صوتها الداخلي هكذا كان يخاطبها دائماً. الصوت الذي جعلها تملك اليوم علامة تجارية تحمل اسمها إلى جانب رسم مصور لوجه ذي ملامح أفريقية خالصة تنعكس عليه أشعة شمس صحراوية وتركب جملاً عربياً! علامتها تعمل في إنتاج الأسمدة وتصدرها للعالم. أما ملامحها فقد اقتُطعت من صورة عائلية لأسرة فقيرة ومغمورة. تلك الورقة المبللة تكاد الوحيدة التي حفظت لنا وجهها ساكن الملامح، بعد حريق نشب في فندق (شمس البخاري) فأتى على كل ما يحتفظ به العاملون من وثائق قليلة نجت من دخان أسود أتى على كل شيء فشوهه. النزل المتواضع الكائن في إحدى ضواحي مدينة أبوجا تحول إلى خربة بعد تكاثف الغيوم والأمطار لليوم العاشر على التوالي. زمن يتدفق بين أصابع المصور الفرنسي (محمد جاك) الذي كان مولعاً بتوثيق كل ما هو غريب ويحمل تفاصيل صغيرة لا تثير في الغالب اهتمام العامة. بيد أن وجه سلمى المنطفئ دفعه للبحث عن شبيهة لها وهي تنحني بوجهها على كتاب تقرأه في فترة الاستراحة خلف قمامة المطبخ. لم يجده، فقد تفرَّد وجه سلمى. حزين وجميل ولا يوجد مثله في البشر. كان يخلقه من القصائد التي كان يكتبها إلى جانب اهتمامه بالتصوير المحترف. بجنون راح يقلب عقله في جحيم أفكاره، شعر أن جحافل من العتمة تتسابق للخروج إلى فسحة الضوء. غير أنها كوقع القناني الفارغة وهي تتدحرج من حافة جبل. لذا قرر أن يكتب قصيدة تخص سلمى. مسقطاً مشهد تصفحها لكتاب وصفات للطبخ العربي عثرت عليه في مخازن لمخلفات الفندق الضخمة الذي كانت تعمل به. حيث يبدأ نصه بمقطع يستهل به:
في هذه السَّاعة الحاسمة منَ اللَّيل
تنهش رائحة السمك ما تبقَّى من قلبك الصَّغير.
هل للكون لغة تفهمنا؟ يسأل نفسه وهو يواصل كتابة قصيدته تحت تأثير سماع صوت أجراس كنيسة قريبة شبه مهجورة. لا تسكن أصواتها حتى تستقر في عمق ذاكرته، فتتجلى له صورة غلاف الكتاب الذي كانت تتصفحه سلمى وهي جالسة على كومة المخلفات. صورة تظهر فيها قافلة إبل ضخمة القوام يقودها بدوي متواضع، وعلى مقربة منه يشوى خروف يقطر دهنه على نار عظيمة تمتزج برائحة قهوة تحمس. لا تأكل منها سلمى ولا أولئك النشالون في المزابل المنتشرة في قريتها. يهدر بداخله صوت عيسى وهو يأمر الحواريين بصيام ثلاثين يوماً. أتموها بالفعل لكنهم سألوه إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها، وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تقبل صيامهم، وتكون لهم عيداً. وتكون كافية لأولهم وآخرهم، ولغنيهم وفقيرهم.
الصحفي المنبهر بالغلاف أفاق من سكرته وأصناف اللحوم والخضار والحلوى تتلون أمامه، فما كان منه إلا أن اضطجع على جانبه وهو يفكر في الماء الذي حبسته سلمى في فمها وهي تتصفح وصفات الطعام الشهي. عيسى قام إلى مصلاه ولبس مسحاً من شعر، وصف بين قدميه، وأطرق رأسه، وأسبل عينيه بالبكاء، وتضرع إلى الله في الدعاء، أن يجابوا إلى ما طلبوا. فأنزل الله تعالى مائدة من السماء، والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنو قليلاً، قليلاً وكلما دنت سأل عيسى ربه عز وجل أن يجعلها رحمة لا نقمة، وأن يجعلها بركة وسلامة، فلم تزل تدنو حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام، وهي مغطاة بمنديل. خدرت أنامل المصور (محمد جاك) بعد أن رسم غمامتين فوق رأسه، ضحوكتين، وتستقر في حوض كبير أسماه (مزرعة الحيتان السبعة) مر أمام أذنه صوت قديم لإبل تسافر وتقطع الصحراء، فخدرت حواسه مرة أخرى. كان قد رآها مرة واحدة في حياته عياناً وهو متجه من المدينة إلى مكة في رحلة الحج عام 1408هـ. حلم بتكاثرها هي الأخرى، بالخير الوفير لو زرعه بحب لاستدامت خضرة الحياة وديمومتها. شعر بحنين غريب فرسم لوحة أخرى تحمل اسم (رجازة وضحى ورماح) الزوجان اللذان أكرماه أثناء توقفه في باديتهم وإعجابه بالزينة التي كانا يعلقانها على جمالهم التي رافقته إلى أفريقيا وكأنها تقول: أيها الحاج الفرنسي نحن نعبر البحر ونصادق حتى الحيتان اللطيفة!
ابتسم للغمامتين ناعساً، وهو يسترق نظراته إلى مائدة عيسى وهو يكشف عنها، قائلاً: بسم الله خير الرازقين، فإذا عليها سبعة من الحيتان، وسبعة من الإبل إلى جانبها أرغفة خبز، ورمان وثمار، ولها رائحة زكية جداً. آمراً أن يبدأ بها الفقراء والمرضى والزمنى..


*الرجازة: وهي شعر أو صوف يعلق على الهودج في خيوط يزين بها.

ذو صلة