مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

مكان هادئ.. وسط صخب هوليود

تبقى السينما الأمريكية هي أقوى صناعة سينما في العالم وأكثرها انتشاراً، أنشأت مكانتها الخاصة اعتماداً على نجاحاتها التجارية الممتدة على مدى عشرات السنين، فسيطرة الصورة السينمائية الأمريكية على العالم هي سيطرة تجارية أكثر منها فنية، لكن آفة هوليود التكرار. أصبحت السينما الأمريكية غارقة في بحر من التكرارات، فكل الأفلام الناجحة هي فرصة للمنتج، فرصة لتحويلها للبقرة التي تدر ذهباً!! بدلاً عن البحث عن فكرة جديدة قد تنجح وقد تفشل. يميل المنتج الأمريكي لإعادة استغلال الأفكار الناجحة من قبل مراراً وتكراراً، ما بين أفلام لاحقة وسابقة (Prequels& Sequels) لنبدأ سلسلة تنبثق منها سلاسل تابعة وتكون عالماً سينمائياً كاملاً!
وفيلمنا (مكان هادئ: اليوم الأول) هو مثال على هذه العملية التجارية التي يعشقها المنتجون الأمريكان، إن عدنا للفيلم الأصلي: (مكان هادئ) 2018 من إخراج جون كرازنسكي نجده فيلماً مبتكراً ومختلفاً عن سياق الرعب التقليدي، أنشأ كرازنسكي عالماً كابوسياً تقع فيه الأرض تحت احتلال كائنات فضائية مرعبة.. ذات حساسية قوية للصوت، ليصبح أبسط صوت يصدر منك كافياً لقتلك!.. فكرة طازجة طرحت في سيناريو جيد الصنع، ورغم الميزانية الضيقة فإن المخرج استطاع أن يؤسس لعالمه (الهادئ) ويحقق نجاحاً تجارياً ونقدياً كبيراً، لم يكن الفيلم الأصلي مجرد فيلم رعب رخيص، لكن نقطة القوة الكبرى فيه كانت عمق السيناريو والتزامه بنموذج دراما المكان الواحد، فاكتسب الفيلم تعاطفنا مع عائلة معزولة في عالم (ما بعد المحرقة)، يحاربون من أجل البقاء ومن أجل الحفاظ على من يحبون.
مكان هادئ/ مكان صاخب
لكن مع تدخل الحس التجاري الأمريكي رأينا جزءاً ثانياً من الفيلم بعنوان (مكان هادئ 2) لنفس المخرج وبنفس طاقم التمثيل، والآن يأتي الفيلم الثالث من مخرج مختلف هو مايكل سارونسكي بدلاً عن كرازنسكي الذي اكتفى بالمشاركة في كتابة السيناريو. هي نفس القصة التي شاهدناها مراراً مع العديد من الأفلام الناجحة، بالذات أفلام الرعب التي كانت دوماً هي الضحية الأمثل لمنتجي هوليود، ربما بسبب النظرة الدونية التي يوجهها النقاد لأفلام الرعب، والرأي السائد عنها أنها مجرد أفلام للتسلية، على الرغم من أن أفلام الرعب قريبة من روح السينما مع اعتمادها الدائم على التوليف الجيد وعناصر الإيهام والمؤثرات البصرية والصوتية المميزة. من الظلم أن نعتبر (اليوم الأول) علامة فشل، لكن يمكننا النظر إليه كخطوة أولى في طريق الانحدار والتكرار، فمع تغيير المخرج تغيرت الرؤية الإبداعية هنا عن الفيلمين السابقين، فنجد أنفسنا هنا في فيلم على نطاق أوسع بكثير من الفيلمين السابقين، فيلم بحجم نيويورك بسمائها وأرضها والمترو تحتها، في أجزاء عديدة من الفيلم نجد أنفسنا أمام فيلم صاخب، بين أصوات الانفجارات والصرخات والسيارات المتطايرة في كل الاتجاهات، نحن هنا أمام فيلم حركة ورعب تقليدي أقل طموحاً بكثير من سابقه، وبينما كان السيناريو هو نقطة القوة في الفيلم الأول نجد أنفسنا هنا أمام سيناريو متهالك، المثير للسخرية أن الأحداث التي عرض لها هذا الفيلم كانت واضحة وبديهية لكل من شاهد الفيلم الأول، حينها اكتفى المخرج بعرضها عبر قصاصات الجرائد والرسائل في مشاهد المقدمة في (المكان الهادئ الأصلي) غطى أداء (لوبيتا نيونجو) على ضعف السيناريو، قدمت الممثلة الأوسكارية في الفيلم شخصية (سام) الفتاة المصابة بالسرطان التي تنتظر الموت، وأقصى أحلامها هو أن تحصل على قطعة بيتزا من مطعمها المفضل قبل أن ينتهي العالم!، ربما شخصية سام هي أكثر شخصية اهتم الكتاب برسم تفاصيلها، واستخدموا كل الحيل الممكنة ليجعلوا المشاهد يتعاطف معها: وحيدة، ملونة، مصابة بالسرطان، لا يشاركها معاناتها إلا قط. أما باقي الشخصيات فلم تكن سوى شخصيات مساعدة أحادية البعد، حتى شخصية جوزيف كوين في دور إريك طالب المحاماة الإنجليزي الشاب، بدا مجرد تابع لسام في رحلتها للبحث عن شريحة البيتزا الأخيرة! حفل الفيلم بالمؤثرات الخاصة الكمبيوترية أو الواقعية، وهو أمر لابد منه لاجتذاب جمهور المراهقين المنبهرين دوماً بتفاصيل الصورة.
شريحة بيتزا!!.. حقاً؟!
ربما كانت من أهم نقاط القوة في (مكان هادئ) هو البعد الإنساني وراء الأحداث، داخل الرعب والصمت نجد المشاعر الإنسانية التي تربط بين أعضاء الأسرة في حربهم ضد الموت، هذه المشاعر التي تضفي العمق الحقيقي على ما نشاهده، إلى جانب مشاعر الرعب والوحدة رأينا في الجزء الأول التضحية من أجل الأسرة، رأينا خليطاً بين أحاسيس الذنب والحب يعصف بالابنة الصماء، في ظل هذه البيئة الضيقة المحملة بالمشاعر كان من الطبيعي أن نجد طاقة عاطفية كبيرة محملة على أجسام بسيطة، مثل لعبة الطائرة التي كان الابن الأصغر يلعب بها، أو سماعة الابنة الصماء. لكن في (اليوم الأول) ولأن الرعب أصبح هو الغاية والوسيلة، فجاء الرعب في المقدمة ليغطي على كل المشاعر الإنسانية الأخرى، لهذا بدت محاولة صناع الفيلم لتقديم بعد إنساني وسط هذا الصخب محاولة ضعيفة وباردة، قطعة بيتزا!.. قطعة بيتزا من مطعم طفولتها في هارلم هو كل ما كانت سام (سميرة) تبحث عنه، المرأة الشاعرة التي تعيش لحظاتها -ولحظات العالم- الأخيرة!.. حاول صناع الفيلم استخدام قطعة البيتزا كمفتاح دلالي لعلاقة سام بطفولتها ووالدها وشعورها بالوحدة، لكن ألم يكن يكفي وضعها بصفتها امرأة مصابة بالسرطان على مشارف الموت لتجذب تعاطف المشاهد؟ لا بل حاول السيناريو أن يعتصر الدموع اعتصاراً من أعين المشاهدين عبر إضافة تاريخ للشخصية وربطه بمطعم البيتزا، لكنها كانت محاولات ضحلة، لم تترك أثراً حقيقياً وسط انفجارات المؤثرات الخاصة وصخب الرعب التجاري. حين كتبت عن الفيلم الأول في السلسلة (مكان هادئ 2018) تساءلت: (هل ستنضج التجربة لتكمل طريقها.. أم سيدخلها سادة هوليود في نفق المط والتكرار والابتذال هي الأخرى؟...) واليوم بدأت الإجابة على سؤالي تتضح.. للأسف.

ذو صلة