مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

شكلت أعماله علامة فارقة في تاريخ المشهد الفني المغربي.. عبد الرؤوف.. رائد فن الفكاهة الهادفة

كثيرة هي الأعلام المغربية التي بصمت على تاريخ مشرق لهذا الوطن، وساهمت في ازدهاره كل حسب مجال تخصصه، حيث استطاعت نقش اسمها بأحرف من ذهب في مختلف المحطات التاريخية التي مر منها المغرب، فمنها العالم والفقيه والرياضي والفنان...، وكان هذا المجال الأخير واحداً من أبرز المجالات التي برع فيها المغاربة، خصوصاً في ميدان المسرح، الذي أعطى أسماء وازنة مازال بريقها يلمع حتى بعد وفاتها، ومن ضمن هؤلاء نجد رائد الفكاهة الهادفة عبدالرحيم التونسي الشهير باسمه الفني (عبدالرؤوف).
ولد فناننا يوم (27 ديسمبر 1936م) بحي سيدي فاتح بمدينة الدار البيضاء، من أم مغربية وأب تونسي، جاء إلى المغرب في إطار الخدمة المدنية لحساب السلطات الفرنسية، وعمل مترجماً من وإلى اللغة الفرنسية بمدينة الدار البيضاء، وبعدما أنهى مهمته في المغرب اختار الاستقرار النهائي في هذه المدينة، ومن تم لُقبت عائلة عبدالرحيم بالتونسي نسبة لأصلها، غير أن هذا الأخير سيفقد والدته وهو في سن السادسة، لتقرر خالته احتضانه والسهر على رعايته.
بدأ عبدالرحيم مسار الدراسة مثل أقرانه بالكُتاب الذي كان بمثابة التعليم الأولي الذي يسبق ولوج الأطفال إلى المدرسة، غير أن خالته لم تستطع إدخاله إلى المدرسة النظامية بسبب الفقر المادي الذي كانت تعيشه هي وزوجها، وبعد مدة قرر والد عبدالرحيم إرجاعه إلى المنزل الذي ولد فيه وأدخله إلى مدرسة أعيان المدينة ذات النهج التعليمي الفرنسي، فكان متفوقاً بين أقرانه، بسبب تأثره بوالده المترجم الذي كان يمتلك ثقافة واسعة، وبذلك استطاع إتقان اللغات وبخاصة الفرنسية منذ طفولته، لكن سرعان ما انقطع عبدالرحيم عن الدراسة بسبب الظروف السياسية المتوترة التي كانت تعيشها البلاد وبخاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فقرر بعدها أن يتعلم حرفة ميكانيك الدراجات، لكن عدم صبره جعلت محاولته غير ناجحة في اكتساب هذه الحرفة.
وستشهد حياة عبدالرحيم في بداية خمسينات القرن الماضي تحولاً جذرياً، إذ انخرط في صفوف الحركة الوطنية المغربية للدفاع عن استقلال المغرب، فأدى به ذلك إلى اعتقاله أثناء مشاركته في إحدى المظاهرات بمدينة الدار البيضاء جراء نفي السلطان محمد الخامس سنة (1953م)، وقد قضى مدة شهرين داخل السجن، تعرف من خلاله على مجموعة من الشباب المغاربة الذين كانوا يمارسون المسرح من داخل السجن، وقد انخرط معهم عبدالرحيم في لحظات التسلية التي كانوا يحاولون من خلالها كسر رتابة وقسوة الحرمان من الحرية، وبذلك كان السجن بمثابة الفضاء الأول الذي تعرف فيه عبدالرحيم على فن المسرح واكتشاف موهبته.
وبعد خروجه من السجن قرر رفقة أصدقائه الانتقال إلى العيش بمدينة المحمدية، وكونوا هناك أول فرقة مسرحية فكاهية قدمت عروضها الأولى في هذه المدينة وفي مدن مجاورة، وفي مطلع الستينات عاد مرة أخرى إلى الدار البيضاء واشتغل كمحافظ على مقبرة الشهداء بالدار البيضاء، وبعدها اشتغل كمراقب لجودة الصباغة في شركة خاصة لصناعة السيارات، لكنه لم ينقطع عن التمثيل والمواظبة على العمل المسرحي لأنه وجد ذاته فيه، إذ كان يؤمن بأنه يقدم رسالة هادفة تخدم الشعب المغربي.
وطيلة سنوات ستينات القرن الماضي ظل عبدالرحيم صحبة رفاق دربه يتجولون بين الفينة والأخرى في المدن المغربية، لكي يبرزوا مواهبهم للجمهور من جهة، ولإقناع المخرجين من جهة أخرى، وفي هذه الأثناء سوف تظهر شخصية (عبدالرؤوف) الفكاهية والتي تتميز بقميصها الفضفاض وسروالها الملون وقبعتها الحمراء وصوتها المثير للضحك، وقد استوحاها عبدالرحيم من زميل له في الدراسة كان يتميز بالسخرية بين أقرانه، وكانت هذه الشخصية فأل خير على عبدالرحيم إذ فتحت له أبواب الشهرة والنجومية بشكل واسع وساهمت في نجاحه وتميزه داخل الساحة الكوميدية، وأضحك من خلالها أجيالاً متعاقبة طوال مشواره الفني.
وفي مطلع السبعينات سيلحظ عبدالرحيم إقبالاً كبيراً على أعماله، حيث كانت المسارح تُملأ عن آخرها، بل وفي بعض الأحيان تقام مسرحياته بشبابيك مغلقة، فخلال سنة (1971م) لوحدها قدم (167) عرضاً مسرحياً، وزاد من شهرته أيضاً أنه التقى بالفنان (محمد بَلْقَاس) الذي ساعده على إيصال أعماله للتلفزة المغربية، فزادت شعبيته بين الأوساط المغربية بشكل كبير، الشيء الذي جعل الملك الراحل الحسن الثاني يقوم باستدعائه بين الفينة والأخرى لعرض أعماله بالقصر الملكي.
بصم عبدالرحيم التونسي على أعمال فنية خالدة امتزجت بين المسرح والسينما والتلفزيون، وإن كان تألقه في المسرح أكثر من غيره، ومن أهم مسرحياته التي تجاوزت المئة: (الشَّاوش)، (إمتى يْجي المُدير)، (مْرَاتِي العزيزة)، (دَارْها ثاني)، (سمسار الحُومة)، (فندق الراحة)، (المحامي)، (مطعم الناس)، (كاتب عمومي)...، وفي السينما شارك في عملين الأول فيلم (ماجد) سنة (2011م) وهو من إخراج (نسيم عباسي)، والفيلم الثاني سنة (2016م) تحت عنوان (عمي) لنفس المخرج، وفي التلفزة أبدع في السلسلة الفكاهية (عبدالرؤوف والتقاعد)، وفيلم (مول البَشْكْلِيطْ) الذي جاور فيه ثلة من الفنانين المغاربة من قبيل: (زْهور المعمري)، (هدى الرَّيْحاني)، (سعيد بَاي)، (بن عيسى الجيراري)...، وهو من إخراج (ليلى التْرِيكِي).
هذه الأعمال المتميزة للفنان عبدالرحيم التونسي جعلته ينال العديد من الجوائز، كما حظي بتكريم مجموعة من الفعاليات المحلية والخارجية، ومن أهم جوائزه نجد جائزة أفضل فكاهي مغربي خلال القرن العشرين التي حصل عليها من قبل (مؤسسة ليالي الفكاهة العربية) بمدينة أنفرس البلجيكية سنة (2011م)، كما تم توشيحه من قبل إدارة مهرجان مراكش الدولي للفيلم في دورته السادسة عشر في سنة (2016م) نظراً للمسار الفني الذي بصم عليه هذا الرجل، وكان أيضاً العاهل المغربي محمد السادس قد وشحه بوسام المكافأة الوطنية من درجة ضابط.
وبهذا فالفنان القدير عبدالرحيم التونسي أو كما يحلو لعشاقه مناداته بـ(عبدالرؤوف) قد غادرنا إلى دار البقاء بعد معاناة طويلة مع المرض يوم (2 يناير 2023م)، تاركاً وراءه إرثاً فنياً أغنى من خلاله الخزينة الثقافية للمغرب بعد مسار حافل بالإنجازات والنجاحات والتتويجات.

ذو صلة