مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الموسيقار السوري العالمي مالك جندلي

يعد الموسيقار السوري العالمي مالك جندلي، من أهم وأبرز مؤلفي الموسيقى الرفيعة في عصرنا الحالي، حيث تحظى أعماله في قوالبها السيمفونية والأوركسترالية والكلاسيكية المتعددة، بالتقدير النقدي والأكاديمي في الكثير من بلدان العالم، وتصل إلى الجماهير المتذوقة بجمالها وحسن أنغامها ومواضيعها التي لا تنفصل عن الناس، سواء في إطارها الإنساني العام، أو فيما يخص الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب السوري، وهو كذلك عازف بيانو مرموق، صاحب أسلوب متميز في العزف، مشهود له بالمهارة والإتقان، يصاحب بعزفه الفرق الأوركسترالية على المسرح عند أداء الكثير من مؤلفاته. يقوم مالك جندلي بتوظيف المقامات الشرقية والألحان العربية في أعماله السيمفونية والأوركسترالية، بطريقة أكاديمية ضمن قوالب ونظريات علم الانسجام (الهارموني) للموسيقى الكلاسيكية، وذلك بهدف الحفاظ على التراث الموسيقي العربي وتقديمه إلى العالم بلغة الموسيقى الرفيعة من خلال الأعمال السيمفونية الجادة، ولا تقتصر مؤلفات مالك جندلي السيمفونية على توظيف المقامات الموسيقية الشرقية في قوالب الموسيقى الغربية الكلاسيكية، بل هي انعكاس حقيقي لدعوة منظمة اليونيسكو للحفاظ على تراث سوريا الثقافي العريق، وحمايته في الوقت الذي يتعرض فيه للمحو والاندثار والتدمير الممنهج.
تصدر موسيقى مالك جندلي من أعماق موسيقار سوري منفتح على العالم بأسره، متمكن من الأسس والقواعد الأكاديمية وعلوم ونظريات التأليف الموسيقي بأشكاله السيمفونية والأوركسترالية، محيط بألوان التراث الموسيقي العربي والمقامات الشرقية والألحان السورية والعربية، وتتميز مؤلفاته بقوة التعبير وعمق الأفكار والتجديد الأسلوبي في إطار القواعد الفنية والأكاديمية الراسخة، وتمثل إلى جانب قيمتها الجمالية والإنسانية إضافات بحثية مهمة إلى علوم الموسيقى، وتجارب فريدة مبتكرة تعمل على دمج الموسيقى العربية بالموسيقى السيمفونية العالمية. تعمل إبداعات مالك جندلي على ترقية الذوق والحس الفني والإنساني، وتذهب بالمستمع سواء كان عربياً أو أجنبياً نحو الموسيقى في أسمى صورها، وتصل موسيقاه بما فيها من صدق وإخلاص إلى قلوب السامعين مباشرة، تخاطب أعماقهم وتؤثر في نفوسهم ويفهمون لغتها الرفيعة بلا أي عوائق. قدم مالك جندلي ولا يزال الكثير من موسيقى بلاده وألوانها التراثية، بل إنه ذهب بعيداً في أعماق التاريخ السوري، وكان له السبق والتفرد من خلال عمله الفذ (أصداء من أوغاريت) بتقديم أول وأقدم تدوين موسيقي عرفته البشرية، الذي كان كشفاً أثرياً مهماً تم العثور عليه في سوريا، تحديداً في مدينة رأس شمرا القريبة من اللاذقية، حيث كانت أوغاريت إحدى الحضارات السورية القديمة، يعود هذا التدوين الموسيقي المنقوش على لوح فخاري مسماري إلى القرن الرابع قبل الميلاد، تناول مالك جندلي أقدم نوتة موسيقية دونها أجداده الذين سبقوا وجوده في سوريا بآلاف السنين، وقام بتوزيعها وأضاف إليها الإيقاع والهارموني، وعزفها على البيانو بمصاحبة فرق أوركسترالية عالمية، وأهدى إلى العالم مقطوعة موسيقية ذات حمولة ثقافية وتاريخية شكلت لوحة فنية رائعة وعملاً موسيقياً فريداً.
إلى جانب هذا التدوين الموسيقي الأثري الذي يعد أقدم تدوين موسيقي في التاريخ، استوحى مالك جندلي من بعض الألحان والأغنيات السورية ما وظفه في أعماله، بالإضافة إلى الموسيقى والمقامات العربية بشكل عام، ووظف كذلك بعض الآلات الشرقية كآلة العود، الذي نسمعه في بعض مؤلفاته مثل كونشرتو الكمان والأوركسترا، وكذلك مقطوعة يجتمع فيها العود مع البيانو والتشيللو. ومن أغنية سورية قديمة بعنوان (سليمى) استلهم مالك جندلي إحدى مقطوعاته الموسيقية التي تحمل عنوان (سليمى) أيضاً، وهي أغنية عاطفية تعود إلى خمسينات القرن الماضي، غنتها المطربة السورية زكية حمدان، لم يقدم مالك جندلي لحن الأغنية كما هو، بل استلهم منه موسيقى أخرى وضعها في قطعة موسيقية أوركسترالية جميلة، يبرز فيها صوت البيانو بتعبيراته العميقة. كما استلهم مالك جندلي في أعماله بعض الأغنيات الشعبية السورية، والرقصات أيضاً كموسيقى رقصة اللونجا، وقدم كذلك مجموعة من المقامات والقوالب الموسيقية العربية كالسماعي والبشرف، منها على سبيل المثال مقطوعة سماعي زنكلاه للموسيقار السوري علي الدرويش، وسماعي حجاز ليوسف باشا، وسماعي كار جهار لطاطيوس أفندي، وفي سيمفونية (وردة الصحراء) قدم الإيقاعات الخليجية والألحان التراثية القطرية، كما استلهم من موشح (لما بدا يتثنى) تنويعات للبيانو والأوركسترا، ومن نشيد (طلع البدر علينا) مقطوعة موسيقية رائعة بعنوان ضوء القمر (طلع البدر).
البيانو آلة مالك جندلي الأساسية ورفيق دربه الموسيقي، على مفاتيحه تعلم الموسيقى منذ طفولته، وعلى البيانو يضع تآليفه ويبثه أولى أفكاره وخواطره الموسيقية، إلى أن تكتمل أعمالاً رائعة، ألف للبيانو عدداً من المقطوعات المنفردة، والمشتركة مع آلات أخرى، ومع الأوركسترا الكاملة. ينطلق مالك جندلي في إبداعه من موهبة نادرة، ومعرفة كلاسيكية عميقة راسخة، وقوة علمية أكاديمية، واطلاع واسع وإحاطة بالموسيقى العربية الشرقية والموسيقى الغربية الكلاسيكية، وكافة التيارات والاتجاهات الموسيقية. بتوظيفه للمقامات الموسيقية العربية وبعض الآلات الشرقية كالعود، خلق مالك جندلي صوته الموسيقي الخاص، وصنع أسلوباً جديداً في التعبير، لا يحيد عن الاتجاه الكلاسيكي الرصين، ويبتكر في الوقت نفسه طرقاً مستحدثة، لإظهار الروح العربية الشرقية موسيقياً، فلا يكون للموسيقى وقع غريب على كل من المستمع العربي والمستمع الغربي، ويستطيع المستمع العربي المرتبط بطبيعته بالغناء أكثر من ارتباطه بالموسيقى البحتة، أن يجد لدى مالك جندلي صوتاً يفهمه، ورسائل تصل إليه واضحة بكل أفكارها ومعانيها، من خلال موسيقار وثيق الصلة بالموسيقى العربية، وموسيقى الغرب الكلاسيكية على السواء.
كالملايين من السوريين يحمل مالك جندلي في قلبه حب الوطن وجرحه العظيم، وكموسيقار عبقري يصور بالموسيقى بعضاً من كفاح الشعب السوري في سبيل الحرية، ويروي بالنغم فصولاً من مأساته الهائلة في أعمال مثل، (وطني أنا) وهي أغنية كتب مالك جندلي كلماتها بنفسه، وعزفها خلال مسيرة داعمة للثورة السورية أمام البيت الأبيض عام 2011، ما أدى إلى الاعتداء على والدي الموسيقار بالضرب العنيف في منزلهما في حمص. كما تحضر سوريا بثقافتها وتاريخها الحضاري وإرثها الموسيقي في أعمال مالك جندلي؛ تحضر أيضاً بآلامها وبمعاناة الشعب السوري، وتتجلى بوضوح في الكثير من مؤلفاته كالسيمفونية السورية، وكونشرتو الكمان والأوركسترا الذي أهداه إلى (نساء سوريا اللاتي ازدهرن بالشجاعة)، وخص منهن مجموعة من السيدات اللاتي تعرضن للاعتقال والإخفاء القسري أثناء الثورة السورية، وسيمفونية القاشوش التي خلد بها ذكرى الشهيد القاشوش الذي كان يغني للثورة السورية فقتل واقتلعت حنجرته، ومقطوعة (يا الله)، والسيمفونية رقم 3 هرايث (الوطن الذي لا يمكن الرجوع إليه)، وسوريا نشيد الأحرار، وغيرها من الأعمال الأخرى. مالك جندلي موسيقار سوري مخلص لسوريته، وإن ابتعدت سوريا عنه مكانياً لأسباب خارجة عن إرادته، فإنها حاضرة بقوة في موسيقاه كما هي حاضرة في قلبه ووجدانه، وفي العديد من مؤلفاته نجد سوريا بتاريخها وماضيها وحاضرها، بجمالها ومدنها كما في ألبوم إميسا (حمص)، وبمأساتها ومعاناة شعبها. ومن يبحث في موسيقى مالك جندلي عن النفحة السورية العربية الشرقية، سوف يجدها بلا شك، لكنه لن يجدها في الصورة التقليدية البسيطة التي يلجأ إليها البعض عادة، كالاسترسال الغنائي والتقاسيم والضربات الإيقاعية الراقصة، فهي توجد لديه في أعمق صورها المكثفة، كما لو أنه يقدم خلاصة تلك الروح السورية العربية الشرقية في أسمى حالاتها وأرفع تجلياتها، بقدرة هائلة وبتمكن كبير من أساليب التأليف الموسيقي وإتقان النسيج النغمي، فلا يُخضع الموسيقى الغربية السيمفونية للألحان الشرقية، ولا يمسخ الموسيقى العربية ويلوي عنقها ليضعها في قالب غير قالبها، لكنه ابتكر صوتاً جديداً هو صوت موسيقى مالك جندلي، تلك الموسيقى التي صارت علامة سمعية مميزة لدى جمهور السامعين، وهذا ليس بالأمر السهل أو البسيط، حيث يتطلب معالجة الكثير من المشكلات أثناء التأليف، والمعضلات الفنية والتقنية المتعلقة بكل نوع موسيقي. وبشكل عام يسعى مالك جندلي إلى تجميع البشر وتقوية الروابط الإنسانية من خلال الموسيقى، ويتناول القضايا الإنسانية بحس مرهف ويتفاعل معها بإخلاص تام، ويعبر عن أفكاره ومواقفه ورؤيته تجاه العالم، وقد اجتمع كل ذلك في موسيقاه فأكسبها صوتاً جديداً وجمالاً خاصاً فريداً.
يمضي مالك جندلي في مسيرته الفنية المستمرة التي تشمل حتى الآن أوبرا كاملة من فصلين، وعشرة ألبومات، تتضمن أكثر من أربعين عملاً موسيقياً، ثمانية سيمفونيات، وسبعة مؤلفات كونشرتو للبيانو والكلارينيت والكمان والتشيللو والفيولا والأوبوا، والعديد من المؤلفات الموسيقية الأوركسترالية وموسيقى الحجرة، ضمن عمله على توظيف المقامات الشرقية وألحان التراث العربي مع الإيقاعات الخليجية، بطريقة أكاديمية مع النظرية الهارمونية للموسيقى الكلاسيكية. بشغف عظيم وحماس بالغ، يواصل مالك جندلي مسيرته الفنية الرائعة، ورحلته الموسيقية المثيرة المدهشة، يكلله الإبداع الصادق الملهم، والإيمان العميق برسالة الموسيقى.

ذو صلة