مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الشعر الشعبي نزغات شيطانية.. أم نزعات ملائكية؟!

يتراشق الشعراء من الفصحاء والعامية التهم دُولةً بينهم في الإسفاف والإسقاط، وأن أحدهما سبب الرجعية أو التزمت المقيت عن اللحاق بالثقافات والحضارات -كما يزعمون- إلى غير ذلك من الإدانات بلا خُطم ولا أزمّة، والتي لو نُصبت لها محاكم، وقضاة، ومصلحون لما حلت مشاكلهم واختلافهم إلى قيام الساعة وإلى البعث والنشور -فكل مجزي بعمله- لكن الحل هو التعايش الثقافي السلمي للطرفين، وإيجاد نقطة للاجتماع حولها من لغتنا الشاملة بردائها للطرفين بنوةً أصلية -وإن عقت بالبعد- وتبني نيابة -وإن برّ بالبعد-، فكلاهما يدلان على إعجاز اللغة وأنها لغة ولّادة، ولادة طبعيّة -بالتفصيح- أو قيصيرية -بالتعريب- أو إلحاقاً بالدخيل بشرط تعديل أو تبديل له بما يوافق طبع اللغة، وقياسها بتقديم، أو تأخير، أو حذف، أو إضافة، وفي معامل المجامع اللغوية من ذلك عمليات ناجحة، وجراحون دهاقنة لعلل الألسن وتقويمها.
لغتنا لغة حية فلم نميتها، أو نحكم عليها بالموت المبكر، لغتنا خالدة ممتدة امتداد الحيوات الدنيوية والأخروية.
وقد ذكرت في قلم -مقال- سابق لي عنوانه: كسر صنم الأدب المحكتر، شيئاً من الضوابط للملاءمة بين الأدبين الفصيح والعامي -أو الشعبي- وليس معنى ذلك أن نترك حِمى لغتنا مستباحاً لكل معتد، بل العربية لها رسم، وحد، وسماع وقياس، ضُبط بمعرفة، ودرس خاص، يُحتكم إليه، قِوامه في القرآن والسنة -على رأي بضوابط-، وشعر العرب المعتد به في الاحتجاج لا التمثيل والاستشهاد إلا أن يكون للتعريب فينجبر الكسر اللُغوي بجوابر ولو كانت ضعيفة.
هذا بالنسبة للمناوشات بين الأدبين الفصيح والعامي، أما من حيث الشعر العامي فهناك موازنات له، تفاضل بعضه بعضاً، تكتنفها معايير للنص داخلية نقدية، وأخرى خارجية متعلقة بالبيئة والمجتمع.
وفي الشعر العامي المعاصر صور بديعة، استوقفت أهل الذائقة الشعرية، العارفين بحسنه من سيئه، ولبعض النقاد المعاصرين وقفات، وموازنات بين الصور الشعرية في الأدبين، ويطرب بسماع الشعبي كطربه بالفصيح.
لكنّ هذا لا يرفعه فوق الشعر المنضبط بأصول، وأوزان، وقواعد، وحس نفسي، وخلجات إنسانية، تقوم في صورتها الحقيقية فيه، تجعله يمشي في ركاب الشعر العربي الأصيل، ومثل هذا الكلام ينسحب من الاتجاهات الشعرية المعاصرة الأخرى -غير الشعبي-، فلا نرفعها فوق مكانها، ولا نزدريها، ونسقطها، بل لها وعليها، وليس القلم هنا للمقارنة، والكلام عن الأصالة والتجديد في باب الشعر، فله أهله العارفون بمداخله ومخارجه، بل الموازنة، والتهدئة بين طرفي نقيض مصنوع، لو عقلوا لسقطت تلك التُهم، والنفرة المذمومة، والتحزبات الأدبية، وعلى ذلك تنسحب أمور كثيرة في حياتنا الأدبية، فلنرجع لأنفسنا، وننظر في الحاجة المعرفية -لا أقول الثقافية فالمعرفة أوسع- ونوظف أدبنا في بناء جيل، يحمل الحرفة والصنعة، ولا نورث الأحقاد الأبدية، كم من المدارس النقدية، قامت على تلك الأحقاد الثقافية؟ فسقطت، ولا يبقى إلا كما تقول العامة: ما يصح إلا الصحيح.

ذو صلة