يذكر عدد كبير من السودانيين، عوام ونخبة أهل الثقافة والفكر، في ذاكرة الحكايات، وما وشمت المحابر على نسخ الصحافة الورقية؛ السجال الصحفي الأشهر على صفحات صحيفة (الصحافة) في شتاء العام 1968، والذي كان سجالاً رفيع اللغة وقاسي الطعنات بين الشاعر والأديب السوداني السفير صلاح أحمد إبراهيم، برمح من نار وسنان من جمر، بانتقاد فاخر اللغة وفظ الدلالات، ليتصدى له -لصلاح- عمر مصطفي المكي، وهو صحفي وسياسي جهير السيرة، لينخرطا في معركة قلمية ظلت مما يستدعيه المنقبون عن تلك الأيام من أرشيف صحيفة (الصحافة) بدار الوثائق القومية السودانية، حيث تقبع نسخ ورقية من أرشيف الصحيفة القديم يتم نقله عبر إعادة النقل كتابة، وذلك أن دار الوثائق القومية نفسها ورغم أنها من أعرق الدور وأسبقها لم تنتبه إلا في منتصف العام 2003 لحيثيات ضرورة رقمنة محتوى ثر ومحتشد بالأوراق والوثائق التاريخية بخلاف الصحف. وحتى هذه الرقمنة تعطلت مرة بسبب بيروقراطية انشغال الإدارة والموظفين وضعف التمويل! رغم أن لدار الوثائق القومية السودانية مرجعية موثوقة جعلتها ضمن الجهات التي استعير منها جزء من الوثائق والخرائط التي أثبتت حق المصريين في النزاع حول (طابا) وتلك قصة معروفة.
***
لم تطور الصحافة السودانية آليات ومواعين لرقمنة أرشيف وطني صحفي حافل بتجارب الصحافة وصناعتها ومحتواها في السودان، وهو الذي يعود إلى العام 1903، وتدشين عملي أدق للتأريخ في العام 1919، وصولاً إلى صحافة الاستقلال والعهد الوطني عقب الاستعمار، وصحيفة (الصراحة) أو حتى صحيفة الأيام الممتدة من أول الخمسينات إلى اليوم، وبالتالي صارت أسماء مثل عبدالله رجب ومعاوية نور وأحمد هاشم (أبو الصحف) وأسماء أخرى لامعة محض هوامش في كتابات الباحثين وطلاب الدراسات العليا ومن يحررون بيبلوغرافيا الصحافة السودانية، وأغلبها يراجع النسخ الورقية البالية في دار الوثائق، أو يستعين بذاكرة الرواة من قدامى الصحفيين، وهذا الوضع في إهمال تطوير أشكال الأرشفة أهدر بالجملة محتوى وثائقياً لتاريخ السودان الحديث بما في ذلك الحقب السياسية التي أعقبت فجر الاستقلال في العام 1956. والمحك هنا ليس الوقائع السياسية التي تضج بالتفاصيل عبر أزمات الأحزاب ومواقفها وتواريخ الانقلابات العسكرية وسيرها، وكلها حظيت برصد عريض وشامل من صحافة كل مرحلة؛ بل تعدى الأمر لضياع سجل ممتد من تاريخ الحركة الأدبية والثقافية، وتطور البناء العام للمجتمع السوداني وتحولاته اللافتة بين المدارس والتيارات الفكرية، وتأثيرها على مجمل الملامح الاقتصادية والسياسية، خلال العشريات الأخيرة من عقود تاريخ السودان، وذلك رغم حدة الأحكام المسبقة واللاحقة عليها والتي شهدت ذات الخطأ المستمر في إهمال الأرشيف للصحف أو غير الصحف بشكل يجاري الطفرة المعلوماتية وتحول آليات العرض الصحفي بظهور الصحافة الإلكترونية والطفرات التي حدثت عبر وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الإنترنت. فحتى الصحف التاريخية مثل (الصحافة) و(الأيام) التي عادت للصدور مثل الأولى، أو استمرت رغم المضايقات؛ لم تسعَ إدارات تلك الصحف لربط الأرشيف القديم بالجديد، ولم تسعَ للحفاظ على القديم ورقمنته، رغم جودة محتواه وكونه محتوى ثميناً للغاية في روابط أو قوالب أرشفة تتاح للجمهور، بل إن حتى الإصدارات الجديدة للصحيفتين لم تسعَ بالحد الأدنى لإنشاء مواقع إلكترونية، حيث لم تنشئ الأيام موقعاً، فيما أغلق موقع الصحافة بعد إغلاق الصحيفة في العام 2018، وإلغاء نسختها الورقية والإلكترونية.
***
أضاع السودانيون قبل الحرب تاريخاً عريضاً ووافر المحتوى بإهمال شنيع، لتأتي حرب الخامس عشر من أبريل تلك بحريق شامل على البلاد والمؤسسات حتى المحفوظ القديم بدار الوثائق أو الدور الصحفية نفسها. حيث في أقرب التسريبات أن الحرب أحرقت بالكامل أرشيف الصحف السودانية بدار الوثائق التي شاء حظ البلاد العاثر وحظ المكان والزمان السيئ أن يكون موقع الدار في قلب الدائرة الحمراء للقتال في وسط الخرطوم، فحال قطعاً جريض العراك دون قريض النجاة. وبالتالي ومما لا شك فيه أن أرشيفاً ضخماً وكبيراً قد تبخر الآن كأبخرة محترقة، وفي أفضل الأحوال إن سلم من الحريق فهو سيتحول إلى وضعية الخراب غير القابل للإصلاح أو المعالجة ليكون الحل فقط في البحث عن قصاصات من الأرشيف الورقي في بعض الذي نقله البعض تطوعاً للمواقع الإلكترونية، مثل رزنامة المحامي والأديب كمال الجزولي أو بعض مسطورات البروفيسور علي المك، وربما بعض شهادات الشهود من الناجين من أحداث انقلاب هاشم العطا 19 يوليو 1972.. وغيرها من أحداث ووقائع. بل إن المصيبة هنا مصيبة السودان الكبرى قد تطال أرشيفه الصوتي والمرئي الذي تدمر تماماً في مقار الإذاعة والتلفزيون بأم درمان، وهو أرشيف يعود إلى الأربعينات، أهمل كذلك بسبب البطء منذ سنوات في رقمنة محتوى الإذاعة والتلفزيون لأسباب عادة تتكرر في كل نسخ الأعذار والتبريرات ليكون الواقع الذي سيصحو عليه السودانيون بعد الحرب أن ذاكرتهم الوطنية والثقافية وربما هوياتهم قد تعرضت لثقب كبير، لا تعالجه مهارة جراح أو تدركه نجاعة طبيب أو تصلح معه عملية استرجاع واستدعاء لذاكرة عطبت بسبب إهمال الأرشفة والتقليل من ضرورة هذا العمل الذي اتضح وبمثال الحال من السودان أنه عمل كبير وخطة حيوية كان الأليق بها أن تتبع وأن تكون أساس البناء قبل الحفظ.