مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

الأرشيف الإلكتروني للصحف.. ذاكرة الحاضر والمستقبل... ولكن!

سوف يطيب لي كثيراً أن أتحدث عن الأرشيف الإلكتروني، تماهياً مع التكنولوجيا الحديثة التي تكاد تقضي على كل ما هو ورقي، طبعاً الأرشيف الإلكتروني تتحكم فيه الأزرار والشاشات والمخزنات الحديثة.
ولكن رغم أهمية ذلك، ورغم السرعة في التحديث واستخراج المعلومة التي يحتاجها الدارس؛ فإني أحس أن الأرشيف الرقمي والإلكتروني أصبح بلا روح، ومعرضاً لخطر التخريب، وتحويل وجهته، وحتى قرصنته رغم المحاذير والسرية في كثير من الأحيان في عملية تخزينه.
طبعاً أنا أطالع الصحف الإلكترونية من حين إلى آخر، وأجد صعوبة في كثير من الأحيان عند البحث عن معلومة وعن دراسة مهمة، فيجب أن (أدوخ السبع دوخات) -كما يقال- حتى أحصل على غايتي. ويبدو فيما أرى وأعتقد أن عملية الأرشفة ينقصها الدقة والتبويب الصحيح، وذلك لافتقاد المختصين في مجال المحافظة على أرشيف الصحف.
فكيف يمكن للصّحفيين أن يوثقوا مقالاتهم وكتاباتهـم توثيقـــــاً علميـاً صحيحــــاً يسهل فتحه ومراجعته لمن يعمل في مجال البحوث والدراسات؟
هذا السؤال لطالما خامرني ويخامرني، خصوصاً كلما قررت محاولاً -برغبة المطلع- أن أتسور حصناً من حصون بعض الجرائد الإلكترونية، وغالباً ما أقبض على الريح وأعود من محاولتي بالخيبة والخسران.
ولقد وجدتني أبحث في هذا المجال وأطالع دراسات مهمة حول الأرشيف الإلكتروني، ولقد وجدت أن الاستعداد الجيد يؤدي حتماً إلى نتائج جيدة، وأن عملية الأرشيف لا يقوم بها صحفي عادي غير مختص؛ بل يجب (رسكلة) الصحفيين حتى يبلغوا مرتبة خبراء في هذا المجال، وعلى إدارة الصحف ومثلما تنتدب صحفيين مختصين مثلاً في الشؤون السياسية والثقافية؛ يجب أيضاً أن تنتدب معهم موثقين درسوا الأرشيف على أسس علمية.
ومن هنا تبدأ عملية المحافظة على ذاكرة الجرائد، والتي هي قطعاً جزء كبير من ذاكرة الوطن.
الفوضى سبب ضياع الأرشيف
سوف أعترف في هذا الإطار أنني وبحكم زيارة بعض المؤسسات الصحفية والمكاتب الموجودة هناك؛ لاحظت أن الجو العام داخل بعض المؤسسات الإعلامية لا يشجع على التوثيق، وأن الفوضى الشاملة داخل تلك المكاتب تساهم في ضياع أرشيف الصحف، فمجلدات التوثيق مرمية هنا وهناك ومعرضة للسرقة والنهب، ولا يتم تبويبها تبويباً تاريخياً وعلمياً عملياً صحيحاً لكي يسهل الاطلاع عليها وقت الضرورة، وأن أغلب الصحافيين لا يحسنون استعمال التكنولوجيا الحديثة للقيام بتخزين الأرشيف ورقمنته، وهو أيضاً ما يضيع جهوداً كبيرة ومعلومات كثيرة ومقالات طويلة ودراسات جميلة ويعرضها للإتلاف.
وبصفتي مخرجاً في الإشهار السمعي البصري، وأواصل دراستي في الإخراج السينمائي؛ فإني أعشق المشاهد المتكررة. ومعنى هذا وتوظيفاً لما أدرس؛ فإني أرى ضرورة تخزين الأرشيف مرتين ورقياً وإلكترونياً، فإذا ضاع أحدهما وجدنا ضالتنا في آخر.
وإني مع رأي من يقول: (الاعتناء الجيّد بالبيانات يتطلّب شيئاً من الوقت والمال) وأضيف عليه: لا بد من كثير من الصبر والحب لمهنة الأرشيف.
وعلى الصّحفيين - كما يقول المختصون- أن يوازنوا بين اعتبارات رئيسيّة عندما يخطّطون لحفظ مواد كتاباتهم اليومية، بالإضافة إلى قضايا الحفظ العامة، وهي مجال اختصاص لا محيد عنه.
وتذكّر -يضيف المختصون-: (أنه لا يوجد شخصٌ أو منظمةٌ ملزمة بالاحتفاظ بعملك الإبداعيّ. فإذا كنت تريد سجلاً لما أنجزته في وسائط الإعلام، فعليك أن تتصرّف. وكصحفي، عمل الأرشفة الخاص بك أمرٌ مهم. إن أرشيف الأخبار، سواء في المجلدات الهشة من ورق الصحف، أو على الميكروفيش (البطاقات المجهريّة)، أو على منصات الستينو في الأرشيف الشخصي للصحفيين، والآن على شكل بيتات وبايتات؛ يسهم بشكل كبير في فهمنا الجماعي للتّاريخ. عصرنا المتقلب، يستدعي أن يكون سجلنا له مستقرّاً).
ولقد قرأت من جملة ما قرأت وأنا أبحث عن معطيات تفيدني وتفيد القارئ الكريم:
أنه في عام 2017، واستجابة لجهود اتحاد الموظّفين، أغلق الملياردير (جو ريكيتس) شبكةَ المواقع الإخباريّة المحليّة التي يملكها بما في ذلك الأرشيف الكامل للموقع.
ولقد عادت المواد المؤرشفة في نهاية المطاف إلى الإنترنت، ولكن محوها اللحظي يدلّ على فناء المحتوى الإخباري على الإنترنت. ويمكن أن يختفي المحتوى أيضاً لأسباب غير خبيثة، مثل تغيير نظام إدارة المحتوى الذي يصعّب العثورَ على المحتوى القديم من خلال البحث، أو حدوث تحوّل في نموذج الأعمال الذي يتّبعه الموقع الذي يحطّ من أولويّة المحتوى الأرشيفي.
في تونس الأرشيف مختلف ومتنوع
يعتبر المؤرخ التونسي عبدالستار عمامو أن الأرشيف في تونس فريد من نوعه في المنطقة من حيث تنوعه، و(غداة الاستقلال كان يوجد ثلاثة ملايين تونسي فقط، ولكن كان هناك تنوع كبير على مستوى الصحافة والنشر).
ويرى أن تونس كانت (موزاييك جميلة جداً ومتنوعة، ومختلفة جداً عن باقي الدول العربية والإسلامية الأخرى).
نستطيع القول إنّ وظيفة الباحث والمؤرشف هي توثيق كلّ الأنواع الفنية، لأنّ كل نوع من أنواع التعبير له خصوصيته وتأثيره المباشر وغير المباشر، وعلى جمهوره المتلقي.
وأنّه يتعيّن على المؤرشف اتّباع بروتوكولات الأمان المناسبة لتقليل المخاطر التي قد تتعرّض لها المصادر في مثل هذه الحالات، والتي قد تتضمن استخدام أجهزة كمبيوتر غير متّصلة بالإنترنت، وأدوات مراسلة مشفَّرة وأقراص صلبة.. وغيرها من التّدابير.
نصائح أساسية للصحافيين
من المهم أن نتذكر أن الأرشفةَ الرّقميةَ ممارسةٌ مستمرّة، وليست مجموعة من الخطوات التي يمكنك اتّخاذها ثم نسيانها.
لا يوجد مقابلٌ رقميّ للصندوق المغبر المحفوظ في الرفوف، فالتقنيات تتغيّر، وهكذا يجب أن تتطور التّدابير التي تتّخذها لضمان الوصول إلى ملفاتك في المستقبل، (تخيّل لو كانت كل ملاحظاتك من المقابلات مخزّنة على أقراصٍ مرنة).
وهذا ما جاء في بعض الدراسات، ولقد جاء فيها أنه يتعين على الصحافي أن:
- يخزّن الملفات المترابطة في مجلّد ويسَمِّيه اسماً منطقياً، ومن المهم جداً تخزين لقطات الشّاشة والصّور ومقاطع الصوت والفيديو في مجلّدات مسمّاة تسميات واضحة، إذ لا يمكنك البحث عن هذه الملفات باستخدام النصّ العادي، وغالباً ما يسمّيها كمبيوترك أو كاميرتك أو جهاز تسجيلك تسمياتٍ عامّة.
- يقوم بتسمية دفتر الملاحظات أو المجلدات التي خزن فيها الملفات الورقية بنفس الاسم الذي استخدمه للمجلّد الرّقمي، حتى يتمكن من ربطها بسهولة.
- الاحتفاظ بنسخ احتياطية من ملفاته، ثم أن يحتفظ بنسخة أخرى منها في مكان مختلف.
- واحدة من أهم وأبرز الجُمل في عمل الأرشيف هي الي تُختصر بالحروف LOCKSS: (النُّسخ الكثيرة تحافظ على سلامة الأشياء). (Lots Of Copies Keeps Stuff Safe)، نظراً لسهولة نسخ الملفات الرّقمية، فمن السّهل إنشاء نسخ متعدّدة لمساعدتك في حالة فقدان البيانات.
علماً والسطر الأخير يفرض نفسه فإن أرشيف الإنترنت يحفظ كمّيةً كبيرةً من البيانات، إلا إنه لا يحفظ كلّ صفحةٍ منْ كل موقعٍ في كلّ يوم، مما يعني أن مقالاً أو منشوراً قد يمر دون أرشفة، أو قد يتطلب البحث عنه وقتاً طويلاً للعثور على الصفحة التي تحتاجها بالضبط.
وعليه فإن أرشيف الجرائد التي أغلقت أو هي على أبواب الغلق، يجب أن يفكر أصحابها تفكيراً وطنياً وحضارياً وإنسانياً، فيسلموا أرشيفهم الذي قد تأكله الفئران والجرذان، ويصبح عرضة للضياع والتلف؛ إلى مراكز الأرشيف الوطني، وهذا ما يحدث في تونس، حتى من مواطنين عاديين، حفاظاً على الذاكرة الصحفية الوطنية. وتلك حكاية أخرى جميلة، ربما نسردها يوماً آخر بالظلال والتفاصيل، وستعجب يوماً سامعيها.

ذو صلة