سوف أشكر في البداية إدارة تحرير (المجلة العربية) على طرح هذا الملف الحساس والراقي للنقاش، وأعترف أنه من لحظة أن طلب مني المساهمة بالرأي في هذا الموضوع، وجدتني أتردد -مدفوعاً بحب المهنة ومتحمساً برغبة الاستكشاف من جديد- على أرشيف جريدة الشروق التونسية التي أعمل بها رئيس تحرير منذ 36 سنة إلى حد الآن، وكتبت فيها ما يعادل 36 ألف مقال إلى حد الآن، بما يعادل 100 مقال في الشهر، في كل الأغراض والمواضيع، مشفوعة قطعاً بمئات الحوارات.
ولقد أدرت النظر في تلك المجلدات الضخمة وتساءلت عن كم الحبر الذي أريق على الورق لكتابة ملايين المقالات في شتى المجالات، والحمدلله أننا نحفظ أرشيف جرائدنا في مجلدات منظمة للوفاء والذكرى والتاريخ، ليسهل لاحقاً على من يريد دراسة تاريخ الصحافة في تونس الرجوع إلى أرشيف الشروق بصفة خاصة وجرائد دار الأنوار بصفة عامة.
وبما أنني شاهد على العصر، وساهمت قليلاً في التأريخ لهذا العصر، فيحق لي أن أقول إن المواد الإبداعية الموجودة في الأرشيف، تشمل أنواعاً عديدة وواسعة من الإنتاج الصحفي والأدبي والرياضي والفني من أخبار ونحت ورسم وتصوير، وتتضمن أيضاً المسرح والسينما والموسيقى والغناء، وكافة أنواع الإنتاج الأدبي المطبوع منها، أو الافتراضي، سواء أكان ذلك دراسات أم تقارير وأبحاث أو روايات، بالإضافة إلى كلّ المقالات التي يمكن تصنيفها ذاكرةً أو نقداً.
ولقد وقفت أمام ذلك الأرشيف الضخم، وقد أصبت بالدهشة والحماس: الدهشة من هذا الكم الهائل من الأرشيف، وشعرت أني متحمس للتفكير في حفظه حتى لا يبلى ولا يندثر في زمن الفيسبوك.
وتلا ذلك قلق خفي في زمن متقلب تتعرض فيه مهنة الصحافة النبيلة إلى محنة الاندثار بسبب هذا الإدمان الغريب على وسائط التواصل الاجتماعي.
ولقد تذكرت أرشيفي الخاص الذي ضاقت به بُهي البيت بما رحبت، ويحتوي على الآلاف من الكتب والمجلات ومجموعة نادرة جداً لجريدة الشباب للشاعر بيرم التونسي التي كان يصدرها في تونس، وإني صرت خائفاً على هذا الأرشيف الضخم من الضياع حين تأذن حياتي بالزوال.
ودعني أصرخ بكل ما في نفسي من قلق: إن الدول التي لا تحافظ على أرشيف الصحف ستصبح بعد قليل دولاً بلا روح، وبلا تاريخ، وبلا ذاكرة، وستعيش شعوبها حالة من اليأس والإحباط حين تريد العودة إلى تاريخها فتدرك أن تاريخها اندثر وأهمل وأتلف.
صحيح أن بعضهم يريد بوعي أن ينسى، أما نحن فنتذكر، يومياً، ولذلك فإن كل الذين يعملون في قطاع الصحافة متعبون ومرهقون ويفكرون، كيف وأين نحافظ على أرشيف الصحف؟
نبذة تاريخية عن الصحافة الورقية
وقبل إبداء بعض الآراء وإعطاء بعض النصائح الصادقة من وحي الاختصاص والمهنة يطيب لي أن أعطي نبذة عن الصحافة في العالم منذ انبعاثها، ومما جاء في بعض الدراسات التاريخية أن الصحيفة أو الجريدة (أو الجورنال سابقاً) هي مطبوعة لها إصدار يحتوي على مادة إعلامية بصياغة صحافية من أنباء متداولة وآخر أخبار وتحليلات ومقالات رأي وأبواب مخصصة لأفرع الكتابة والأدب، ويمكن حصرها في هدف النشر والتوزيع ببث أفكار في شكل معلومات وإعلانات، وعادة ما تطبع نسخة على ورق زهيد الثمن.
ويمكن أن تكون الصحيفة صحيفة عامة أو متخصصة، وقد تصدر دورية مثل أن تكون يومياً أو أسبوعياً. من أهم مميزات كل صحيفة هي العنونة أو المانشيت مثلاً يقال عنونت (الرياض السعودية) وتابعتها بنفس العنونة صحيفة (الشروق التونسية)، وهكذا جرى العرف أن يطلق اسم (صحيفة) على (الجريدة)، إلا أنه علمياً فإن الصحيفة هي كل مطبوعة دورية، وبالتالي يدخل تحت خانتها المجلة التي يعمل بها (صحفيون) أيضاً، إلا إن المجلة تتميز بدورية أطول من الجريدة التي تصدر يومياً أو أسبوعياً، في حين يمكن للمجلة أن تصدر أسبوعياً أو شهرياً أو نصف شهري أو فصلياً أي كل ثلاثة أشهر، كما تختلف المجلة عن الجريدة في نوعية الورق ووجود غلاف وقطع مختلف.
وقديماً استخدم أهل مصر كلمة (جورنال) لكن الصحافي والكاتب فارس الشدياق عرب الكلمة إلى جريدة وهي لفظة دارجة إلى يومنا هذا.
ولقد نشرت أول صحيفة في التاريخ عام 1605، ومع دخول القرن العشرين قاومت الصحف المكتوبة كل الاختراعات التقنية الحديث ابتداءً من المذياع وتدريجاً التلفاز وانتهاء بشبكة (الإنترنت) شبكة المعلومات العالمية، ولكن مع بداية القرن 21 أصبحت الصحافة المكتوبة بشكل عام عرضة للزوال، لا سيما بعد التوسع الهائل الذي تشهده الثورة المعلوماتية والتي يعتبر الإنترنت الفضاء الرئيس لها.
وتحتوي الصحف العامة (غير المتخصصة) عادة على الأخبار، ومنها الأحداث السياسية والجرائم والأعمال والرياضة، وربما أيضاً أخبار الطقس والكلمات المتقاطعة والطالع، وتأخذ أشكالاً متعددة مثل المقالات والأعمدة والكاريكاتير.
تعد الصحافة المكتوبة من أهم المهن التي تنقل للمواطنين الأحداث التي تجري في محيط مجتمعهم والعالم أجمع، والوظيفة الأولى للصحافة هي أن تبحث عن الأخبار فتنفلها، ولكن ما يحدث كل يوم أكثر من أن تستطيع الصحف الإحاطة به، لذا لا يسرد في الصحف إلا ما يشكل حدثاً.
في فرنسا
في عام 1632 صدرت الصحيفة الفرنسية الأولى، وكان اسمها الأخبار اليومية؛ لأماكن مختلفة. بعد ذلك بأشهر تبعتها لاغازيت لصاحبها نيو فراست رنودوم، حوالي عام 1796 كان عدد النشريات الصادرة في باريس يتجاوز السبعين، وكانت أول جريدة عربية زمن الحملات الصليبية تعد في المطبعة الفرنسية عام 1799 في مصر مع الحملة الفرنسية بقياد نابليون بونابرت، وكان اسمها الحوادث اليومية، وكان ظهور أول جريدة عربية في شمال أفريقيا في عام 1847 وهي المبشر.
السلطة الرابعة
ويطلق أحياناً لفظة السلطة الرابعة على الصحافة لما لها من تأثير على خلق الرأي العام، ومنذ أن ظهرت الوسائل الإعلامية الأخرى من إذاعة وتلفاز وإنترنت؛ ما زال الجدل والنقاش دائراً بين أوساط الإعلاميين في مدى قدرة هذه المهنة (والتي تسمى أحياناً بمهنة البحث عن المتاعب) على البقاء والديمومة، نظراً لسهولة انتشار الوسائل الإعلامية الأخرى، وزيادة قدرتها على التأثير في الجمهور، إضافة إلى جاذبيتها، ولكن ظلت الصحافة تحافظ على مكانتها، وذلك عبر لجوئها إلى بدائل أخرى، ومحاولة البقاء ضمن دائرة اهتمامات الجمهور من خلال الإعلانات أو تقديم الخدمات العامة أو التعمق في الأحداث اليومية وسرعة الوصول إلى القارئ.. وغيرها.
وللتاريخ أيضاً، فقد كان هناك بدايات للصحيفة في روما القديمة، حيث قامت (إكتا دورينا) بنشر إعلانات الحكومة بالنحت في الحجر والمعادن وقامت بتعليقها في الأماكن العامة.
وعودة على بدء، فلقد قلت منذ البداية إن الصحافة لها الذاكرة القوية في التوعية والتثقيف، ويجب أن نقف جميعاً ضد المحو والإلغاء والجحود والنكران والنسيان، ويجب أن أقول أيضاً يجب أن نخوض معركة ضد إتلاف الأرشيف أو ضياعه، مما سيضيع ذاكرة دول وشعوب بأكملها.
ولقد تفطنت تونس باكراً إلى هذا الأمر، وكانت سباقة منذ سنوات الاستقلال الأولى إلى بعث المركز الوطني للأرشيف، وأسست المكتبة الوطنية التونسية، وحافظت من خلال هذين الهيكلين على كل الصحف والدوريات التونسية، فمثلاً نجد في رفوف المكتبة الوطنية طبعات صحف ودوريات تعود للقرن التاسع عشر، وتجمع نسخاً منها لرقمنتها في حملة تهدف لحفظ هذا التراث الفريد من مراجع ووثائق.
ويوجد أيضاً نسخة غلب عليها الاصفرار من صحيفة (الحاضرة) المطبوعة بالعربية تعود للعام 1885، هذه الأرصدة شاهدة على حضارة تاريخية مهمة عاشتها البلاد التونسية.
ويعتبر المركز الوطني للأرشيف مخزناً كبيراً مجهزاً تجهيزاً عصرياً لحفظ الذاكرة التونسية
تضمّ المكتبة الوطنية في تونس، وهي هيئة حكومية، صحفاً نُشر بعضها منذ قرن ونصف القرن من الزمن بلغات متعددة منها العربية والإيطالية والمالطية والإسبانية والفرنسية.
وتشكل هذه الصحف جزءاً من مجموعة تضم 16 ألف طبعة نشرت بمئات الآلاف من النسخ، وتعمل المؤسسة على رقمنتها بهدف الحفاظ عليها كلّها.
وطُبعت غالبيتها باللغة العربية وتعود أقدمها لمنتصف القرن التاسع عشر عندما كانت تونس تحت حكم العثمانيين.
ومنذ إرساء نظام الحماية الفرنسية في تونس في العام 1881، بدأت تصدر مطبوعات باللغة الفرنسية وأخرى بالعبرية والإيطالية والإسبانية والمالطية بمبادرة من الأوروبيين الذين اختاروا البلد موطناً لهم.
وتوجد في المكتبة الوطنية نسخة من صحيفة (لونيونيه) (الوحدة) تعود للعام 1886، وهي من منشورات الجالية الإيطالية التي كانت تعد أكثر من 130 ألف شخص قبل الاستقلال.
وفي الغرف المتجاورة، يقوم تقنيون باختيار نسخ وتمريرها عبر آلة المسح الإلكتروني التي جلبت خصيصاً من الخارج لإنجاز مشروع حفظ الذاكرة التونسية.
وفي مايو الفارط نزّلت المكتبة الوطنية النسخ الرقمية لهذه الصحف على الإنترنت لإتاحتها للباحثين والراغبين في الاطلاع عليها، ولتفادي لمسها وتصفّحها كثيراً بالأيدي.
وتقول مديرة المكتبة الوطنية: (أريد التسريع في عمليات الرقمنة، وخصوصاً فيما يتعلق بالدوريات لأنها كانت مهددة بالإتلاف وبعضها لا يوجد منه نسخ في أماكن أخرى).
وتعكف المكتبة الوطنية على التسريع في تنفيذ برنامج بتمويل يقدر جزئياً بثلاثة ملايين دينار (حوالى مليون يورو). وشكلت لهذا الغرض فريقاً من عشرين شخصاً يعملون على هذا المشروع، وأعطت الأولوية للصحف والدوريات لأنها في حالة (سيئة) ويمكن أن تتفتت.
وهكذا، وكما نلاحظ فإنه بالإرادة والصبر والمال يمكن أن نحافظ على أرشيف الصحف من التلف، وعلى الذاكرة الوطنية من الاضمحلال.
وفي هذا الإطار أيضاً قال مدير عام الأرشيف الوطني التونسي، الهادي جلّاب، إنّ الاحتفال باليوم الوطني للأرشيف، الموافق 9 ديسمبر من كلّ سنة، يُنظّم عادة، تحت شعار (مسؤولية الموظّف وهياكل الأرشيف في حفظ الوثائق الإداريّة وحمايتها)، بهدف التأكيد على أنّ كل موظف مسؤول عن الوثائق التي ينشئها أو يتسلّمها، إذ إنه يتحمل المسؤولية في حمايتها من التسريب والإتلاف، وذلك لأن (هناك من تعمّد في بعض الفترات العبث بالوثائق أو إتلافها، من أجل إخفاء بعض الحقائق أو للتهرّب من بعض الواجبات أو المسؤوليات).
وبيّن مدير الأرشيف التونسي أنّ مؤسسة الأرشيف الوطني تقوم كل سنة، بتكريم المتبرعين بالأرشيف الخاص، مشيراً إلى أن عدد الوثائق التي تسلّمها الأرشيف الوطني، في السنتين الأخيرتين، من الأشخاص الطبيعيين ومن جمعيات ومؤسسات؛ يقارب 2000 حافظة تاريخيّة.
والسطر الأخير يفرض نفسه، ومن وحي ما ذكر أعلاه يمكن أن نستفيد من التجربة التونسية في الحفاظ على الأرشيف الصحفي والاستفادة منه، حتى لا يبقى الأرشيف ذلك (الكنز المنسي والمهمل).