قالوا له: امشِ يا محمد، فالمشي يغلق أبواب الهم، ويطفئ نيران الشوق، ويكسر هوس الألم، ويمنح الروح فرصة لتجدد جَلَدَها، وللجسد أن يتنفس بعمق.
وهو الآن في مشواره اليومي، والذي يقف أمام قدميه في هذا المكان هو شيء لافت مغرٍ، لأنه لا يبدو من المهملات المرمية المتروكة، وإنما يبدو كشيء سقط من صاحبه، تناول محمد ابن أبوجمال الظرف بحذر، قرّبه من عينيه، تحسّسه بأنامله، كان ناعماً طرياً فيه صفات يعرفها جيداً.
هذه مخدرات، يعني مصاري عفق، ألا تذكر يا محمد ما قالوه: (الغرام بمئة دينار، وهذا كنز من خيال بين يديك).
يمسك محمد ابن ابوجمال الظرف بحرص، يرفعه أمام عينيه.
وهم دائماً يقولون لي بكثير من الفرح والانبهار: (أمريكا بلد المصاري، يا رجل، شوالات المصاري كلها بأمريكا، مطبعة المصاري بأمريكا، إن وصلت هناك فزت بالجنة والحياة. وأنت الآن لم تعد مضطراً للهجرة، ولن تتذوق طعمها المر، فها هو كنزك المنتظر يتبدى لك ظرفاً من المخدرات، ها هو شوال من شوالات المصاري يتراقص بحب ودلال في هذه الزاوية البعيدة عن أعين الناس!)
يقلّب محمد ابن أبوجمال الظرف الورقي المصرور بعناية، المربوط بحذر شديد بخيط كتاني يشبه الخيوط التي كان أبوه يستلها من شوالات الخيش ليربط بها ضمم البقدونس والنعنع ليسهل بيعها، يثبت محمد ابن أبوجمال الظرف الورقي أمام عينيه، وهو مليء بالأسئلة التي باتت تتكاثر في رأسه كمجموعة هائجة من الدبابير:
(ولكن، أنا لا أعرف المخدرات! ولا أعرف من يشتريها؟ ولا أين أبيعها؟ ولا كيف أبيعها؟ هل هذا هو الكوكائين الذي حدثوني عنه كثيرا، أم هو الهيروين، أم هو الحشيش؟ أتذكر يا محمد ما قاله لك سعيد الجعمكة: هههه، كيلو الهيروين يباع بآلاف الدنانير؟ ما بك يا محمد؟ يا رجل الكيلو يعني شوال مصاري، مصاري عفق، وهذا شوال مصاري، شوال مصاري كبير ضخم يا محمد، فلتذهب الغربة إلى الجحيم، بلا أمريكا بلا بطيخ، والشاري والموزع سيأتيان إليك كما جاءك هذا الشوال يسعى).
يحمل محمد ابن أبوجمال الظرف بكفه ليروزه في محاولة لتقدير وزنه: (أكثر من ثلاثة كيلوات مسحوق، ياااه، عنجد هذا كنز)
تسلل محمد ابن أبوجمال إلى المطبخ، وضع الظرف على الطاولة، وكما يفعل العارفون، بحث في أدراج المطبخ عن سكين كتلك التي يفتحون بها هذه الأكياس في الأفلام. (أيجب أن تكون السكين كما هي في الأفلام؟ لن أخاطر، لعل السكين لها تأثير في المادة، واستخدام غيرها سيبطل مفعول المخدرات فيها فتصبح بلا قيمة، وهذا يعني أن شوال المصاري سيتبخر).
(سأفتحه طولياً بالسكين، جرح صغير، ثم أغرف منه قليلاً بطرف السكين، أو أداعبه بأصبعي، ثم ألعقه، رأيتهم يفعلون ذلك كثيراً في الأفلام الأمريكية).
يجرح محمد ابن أبوجمال الظرف المستلقي بغرور على الطاولة.
(لكن، أليس هذا حراماً؟ ألن يدخلك هذا جهنم؟)
يهز محمد ابن أبوجمال رأسه بغضب: (بلى، لكن بلا بطيخ، وهل هذه حياة، هل الحياة التي أعيشها هي الجنة أو جزء منها، أليست الفقر عينه، والفقر هو الجحيم، أليس الجوع والعطش هما من عذاب أهل النار، أليست البطالة من العمل نوعاً من العذاب؟ هذه المخدرات ستساعدهم على النسيان، ستنتشلهم من هذا الواقع المر).
يضع محمد ابن أبوجمال إصبعه داخل الظرف، يسمع صوتاً قادماً من الغرفة المجاورة، إنها أمه، يرفع محمد ابن أبوجمال الظرف عن الطاولة بسرعة، ويخفيه بخوف في درج من أدراج المطبخ.
(ابقَ هنا قليلاً، سأعود إليك بسرعة، حظي وفرصتي أنت)!
تدخل أمه المطبخ، تلحظ في عينيه توتراً وقلقاً وخوفاً، فتمسك يده، وتسحبه إلى حضنها: (يا ماما، كل شدة ولها فرج، ونصيبك من هذه الحياة هو نصيبك، ورزقك هو رزقك، اصبر فوظيفتك لك وحدك ولن تكون لغيرك، في طريقها إليك).
يستسلم محمد ابن أبوجمال ليدي أمه، وهما تمسحان على رأسه، ولأنفاسها، وهي تدثر نبضاته، ولكلماتها وهي تحاول لملمة ارتباكه ويأسه وحزنه وقلقه.
(ها قد جاء الرزق يا أمي، ها قد جاء على شكل ظرف مليء بالخير والمال)
سحبته أمه بحب وبحنان إلى غرفة الجلوس، أجلسته في المقعد، مسحت خده بحب، ثم قالت له بصرامة: (اجلس هنا، وغداؤك سيأتي إليك، لا تدخل المطبخ، أمك ما زالت قوية، قادرة على فعل كل شيء، يا حبيبي، أعرف أنك تحاول مساعدتي، لكن المطبخ دعه لي، هذه مملكتي)
وبينما كانا في حوار قلبي مليء بالحب والحنان، جاء صوت حاد متقطع لطفل في المطبخ، ركض محمد ابن أبوجمال، وركضت أم جمال إلى الصوت، كان أخوه الصغير باسم الوجه يجلس على ركبتيه على أرض بيضاء وأمامه ظرف ورقي، ويداه ملطختان بمعجون أبيض، وعلى فمه آثار بيضاء، ضحك الطفل كثيراً حينما رآهما يركضان نحوه بخوف، فحمل الظرف وحاول الهروب من المكان لكنه لم يستطع، فانتزع محمد ابن أبوجمال الظرف من بين يديه (وركض به بغضب إلى المغسلة، وهو يقول: (يلعن أبو شوالات المصاري، يلعن أبو المصاري..)
أم جمال بغضب: هذا الطحين المسوِّس منك؟
طرق عنيف على باب الدار
أم جمال بصوت منزعج: (محمد، محمد، افتح الباب!)