مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

منامات نوح عبدالرحيم

رأيتُ في منامي:
أنّي طريح على حافة قناة عين فرزان(1)، والظمأ قد أخمد أنفاسي، وأيبس عروقي وأرخى عظامي وفتك بقوَّتي وهَدّ صبري، وصوت شيخ يُتأتئ ضاحكاً قُربي:
ما الجديد؟ هذا أنت مذ وضعتك أمك تلك الليلة، وأنت ترفض أثداء المراضع، وتصدّ بعناد ضاجّاً المكان ببكائك الصاخب، حتى أيقن كُلّ من حولك أنك ميت لا محالة، أقلها موتك بكاء.
ثم أرخى عصاه الخشبية القصيرة عند قَدَمِه وأضاف:
من حُسن حظك تلك الليلة وأنت في لفافة الرضاعة وبكاؤك متواصل إلى حدّ أثار شفقة كل من حولك، أن امرأة حكيمة من نساء الحي نهضت على نبرات بكائك المُر، وَطَرَقت باب أهلك طرقات مُتتابعة مُتسارعة، وطلبتك، وحين أحضروك لها، أراحتك على ظهرك وكشفت عن صدرك إلى أسفل سُرّتك، وانتزعت من جيبها زجاجة صغيرة خضراء داكنة، وأراقت قطرات زيتية صغيرة عجنت فيه بعض الأعشاب البرية، وهي تنظر إلى دخان بطيء يعلو في ركن غير بعيد، وإذا بصراخك يهدأ شيئاً فشيئاً بعد أن أفزع وأوهم من سمعه أنه صراخ القانط من الحياة قبل بلوغها. بعدها خمد صراخك تماماً، وبقيت أنفاسك المُتلاحقة تتمهل رويداً رويداً حتى استقرت على طبيعتها والمرأة مُستمرة في إرسال يمناها داعكة وجهك بالماء البارد مُطفأة حرارة دمك النافر على جلدك الرقيق وجمجمتك الصغيرة، حينها وضعتك في حجر أمك وراح فمك الصغير يتلقف قطرات الحليب في نهم الظامئ المنقطع.
وفجأة عَلَا صوت الشيخ ضاحكاً بطريقة غير مهذبة ولا متعاطفة.
ثم استيقظتُ من نومي
***
رأيتُ في منامي:
أنّي في رهطٍ أدلج ليلة السابع من شوال، في رحلة وصلت عند الفجر، وحين كان قُبيل الضحى بلغنا محل إقامة عرب عند جبل رأس الكلب(2)، تماماً كما وصف لنا أمير الرحلة قبل ليال. ترجّلنا دفعة واحدة وسرنا خلفه عبر سهل طيني بعد مطر كثيف، وخيولنا تتمهل خلفنا، وقد أصغينا للصمت المحيط بالمكان المُتّسع.
بلغنا القوم، وأناخ أمير الرحلة ناقة حمراء تحمل صناديق خشبية فارغة، كان قد اجتلبها مذ بدأ إدلاجنا من ليال قليلة. نظر فينا الأمير وهو يقرأ ما يشبه التعويذات والأدعية الموضوعة، ثم أطال النظر فينا صامتاً، فغمره العرق وقطع السهل مكملاً سيره ونحن في أثره، فتوقف فجأة وركع على كومة رمل عند رأس قبر يجاوره مجرى للسيل، وقبض قبضة من تراب القبر وَذرّها على كفيه، ثم شرع يحفر بكلتا يديه، فشاركه البعض يحفرون بجانبه.
وفجأة، صاح بصوت مُتألم، بعد أن جرحت صخرة مثلثة حادة باطن كفه، فانتزع الصخرة وقذفها نحونا فتلاشى أغلبنا كما يتلاشى الدخان في الفضاء وهو يُكرّر:
إن البراهين لا تكذب.
لفَّ جرحه وهو يعيد بصوتٍ عالٍ:
إن البراهين لا تكذب.
وأرسل نظراته المُتألمة السريعة إلينا فاستفهم أحدهم بإيماءة دون أن تتحرك شفتاه، فأضاف الأمير:
هناك أعين تدّعي دوماً أنها نائمة لكنها قلقة تراقب مصائرها.
حينها غيّب الظلام ما بقي من حمرة المغيب وغرقنا جميعاً في حُلكة عاجلة كمن انقلب بهم مركبهم في قلب المحيط.
ثم استيقظتُ من نومي
***
رأيتُ في منامي:
أنّي أَفْلَتُّ لجام فرسٍ شقراء وتركتها ترتع في واحة خضراء ساحرة مُلاصقة لـ(جبل الدّام)(3)، وقمت بجمع حطب السَّمْر لأوقد النار بعد أن هدأت ريح كادت أن تقتلعني اقتلاعاً، فجئت بثلاثة أحجار بين الكبيرة والصغيرة، وعلى رسم مثلث نصبتها جوار القدر، ثم أرحت القدر عليها وصببت الزيت وأعددت لحم غزال اصطدته قبل وقت، حينها سمعت صوت عزف ناعم يُخالطه غناء شجي، فأدرت رأسي فإذا بامرأة مضيئة الملامح تنتقل أصابعها النحيلة فوق الأوتار الذهبية بانتشاء وبحركات تشبه اكتشاف معاني الغناء، فتنفس صدري بأنّة عميقة، فأقبل نسوة في طول واحد وتجمّعن حولها، ضفائرهنّ ضافية إلى أردافهن، وفي صدورهن تلمع خرزات ذهبية صغيرة، وقُدودهنّ المرتوية تزهو في ثياب فضفاضة مُتباينة الألوان.
انعَطَفَت إليهن فجأة فتاة دُريّة لم تَرَ عيني مثيلاتها، أرسلت إلي نظرة بعينين دعجاوين كحلاوين لامعتين، في ملامحها مرحٌ وَلَهو، تُغني وترقص منتقلةً بخفة بين النسوة وكأنها أنطقت الزوايا المظلمة، فالتهبت مشاعر الغناء في النفوس، والتمّ حول الغناء فتيان ورجال وعجائز، وطَرِبَ السامعون لقرع الطبول وهم يكرعون كؤوسهم ويردّدون وراء المغنية بنشوة كأنهم اتفقوا عليها.
انقلبت لحظتي تلك إلى ساحة يُحفّزُها الطرب وتُغذّيها النشوة، حيث تَرَنَّحَ من لم يعرف الترنّح في حياته، وانتشى من فارقته النشوة لدهور، حينها قفز من بين المنتشين فتى فداست رجله في موقد الجمر، ولسع باطن قدمه اليسرى لسعاً حارقاً، فالتقطوه راكضين به إلى طبيب شهير غير بعيد، عندها استحال الطرب إلى لعنات حادّة أطلقتها الأفواه جميعها.
ثم استيقظتُ من نومي
----------
(1) فَرْزَان: منطقة زراعية بـ(الخَرْج)، تضاف إليها عين كانت تقبل من غربي (الخَرْج)، مما يلي أسفل (وادي نسَاح)، من جبل (مناقد آدم) يشرف على غربي الخرج، ومفيض (وادي نسَاح) فيه.. مما أرجح أن يكون هو (الآدَمَى) التي يعنيها جرير في شعره:
يا حبّذا الخرج بين الدام والآدَمَى فالرمث من برقة الروحان فالغرفِ
(2) رأس الكلب: رأس جبل بارز يُطل على الخرج من الناحية الجنوبية الغربية.
(3) جبلُ الدَّام: يُشرفُ على جَوِّ اليمامة (مدينة السّيح حالياً) من الناحية الجنوبية، وفي سفوحه الغربية تقع عيون الخَرج الغزيرة.

ذو صلة