مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

أحدهم يحاول أن يخبرنا شيئاً

رسائل سرية مشفرة ظلت تصلني لشهور، لم أكن أستلمها في مغلفات معطرة، أو أجدها تحت سجادة عتبة بيتي، فألتقطها خفية لأقرأها وحدي، ولم تكن رسائل (واتساب) تصلني بنغمة إشعار يرتجف لها قلبي لهفة؛ ظلت الرسائل تصل، لكن بطريقة مختلفة تماماً، فزوجي هو الذي كان يحملها إلى البيت بنفسه، كل ثلاثة أيام، دون أن يدري.
اكتشفت أول رسالة مصادفة، أحضر زوجي يومها حصتنا الحكومية نصف الأسبوعية من الخبز، أخرجت الأرغفة الساخنة من الكيس الرقيق، ووزعتها على الطاولة كي لا تلتصق ببعضها، وريثما تبرد شربنا القهوة معاً دون أن نتبادل كلمة، فعينا زوجي كانتا معلقتين بشاشة هاتفه، يتابع كالعادة نشرة الأخبار الصباحية عبر سماعتين محشورتين في أذنيه، بينما أكتفي بمتابعة تعابير وجهه، فأنا ممنوعة منذ عامين عن النشرات والتقارير الإخبارية، في محاولة لانتشالي مما أسماه الطبيب اكتئاباً مزمناً.
خرج زوجي إلى عمله، وعدت أنا إلى المطبخ، رحت أفتح كل رغيف إلى فلقتين، كما أفعل دوماً، فلقة هي الوجه الأكثر بياضاً، الذي يصلح لأحضر منه (ساندويتشات) لأطفالي، والأخرى هي وجه أكثر سماكة، مشقق غالباً، وتبدو عليه دوماً آثار بنية اللون داكنة أو باهتة، من تلك الآثار التي تتركها النار عادة على العجين، كنت أهم بوضع الأرغفة في الكيس لأحفظها في الثلاجة، حين لمحت على الوجه المشقق لأحد الأرغفة شيئاً جعلني أجفل، فبين العلامات البنية، المتوزعة على الرغيف، استطعت أن أميز اسمي، كانت الأحرف مضطربة، وكأن أصابع مرتجفة متعجلة قد كتبتها، سحبت رغيفاً آخر، ثم آخر وآخر، ومع أن الاسم لم يكن واضحاً تماماً، لكنني، وعلى كل الأرغفة، استطعت العثور عليه.
حين كنا نتناول غداءنا، كدت، أكثر من مرة، أن أخبر زوجي بما رأيته، لكنني أقنعت نفسي أن الأمر كله مجرد مصادفة غريبة، فاخترت الصمت، واكتفيت بمراقبته هو وأطفالي، يقسمون أرغفة الخبز ويلتهمونها بشهية.
انتظرت بفارغ الصبر، ثلاثة أيام، موعد حصولنا على حصتنا التالية من الخبز، لم أعثر على اسمي هذه المرة، لكنني، على الأرغفة كلها، رأيت قلوباً صغيرة بنية اللون، وحين كنت وأمي نشرب القهوة في شرفتي أعطيتها رغيفاً، وطلبت منها أن تتفحصه، عرفت من ملامحها الحيادية أنها لم تميز شيئاً، (قلوب مشوهة محترقة) قلت بخوف وأنا أشير بأصابع مرتجفة إلى الأشكال البنية المنقوشة على الرغيف، وحين بدا لي أن أمي استطاعت تمييزها، اقتربت منها وهمست بحذر: (أعتقد أنها رسائل مشفرة، أحدهم يحاول أن يخبرنا شيئاً)، تجهم وجه أمي، وحين كانت تودعني لتذهب إلى بيتها احتضنتني، وبلطف سألتني إن كنت أتناول أدويتي بانتظام، السؤال نفسه همسه زوجي بقلق في الأسبوع التالي، حين كنت أتحسس عنقي بخوف، وأشير إلى مشانق تتأرجح في أربعة عشر رغيفاً من الخبز وزعتها على الطاولة صباحاً.
تعاقبت الأيام والأرغفة، وبنظرة واحدة صرت حين أحمل أي رغيف أستطيع قراءة الإشارات والرموز، كما تقرأ عرافة خطوط الكف، ثم أنسخ الرسائل المشفرة على دفتر صغير، وأكتفي بالصمت.
رؤوس مقطوعة لها عيون متسعة بذعر، تلال من الرماد، مقصات وسكاكين، وجوه جلادين، شاهدات قبور وفزاعات عصافير، شموس مطفأة، عناكب سوداء بسيقان مشعرة، وفراشات بأجنحة مقصوصة، ملأت هذه الرموز وغيرها أرغفتي ودفتري، بدت كنداءات استغاثة، أراها في كل شيء حولي، تسكن صرخاتها رأسي، وحين أنام تحتل كوابيسي، أهملت نفسي وزوجي وأطفالي، عافت نفسي الطعام والحياة، اضطربت ذاكرتي، واختبأت خلف صمتي.
(ليست هلاوس، أحدهم يحاول أن يخبرنا شيئاً) قلت، فكتب الطبيب لي قائمة من المنومات والمهدئات، طلب من زوجي إحضارها.
(لست ممسوسة بجن، أحدهم يحاول أن يخبرنا شيئاً) قلت، فأشعل الشيخ البخور، وتلا آيات من القرآن، ثم كتب أدعية وأذكاراً، أمر أمي بتلاوتها فوق رأسي كل ليلة.
***
(يجب أن تساعدي نفسك) قال زوجي صباحاً بحنان، ثم وضع جانباً لقمةً كان يحاول إقناعي بأكلها، هز رأسه بأسى، وخرج إلى عمله.
(يجب أن تساعدي نفسك) قالت أمي بتوسل بعد أن أوصلت أطفالي إلى حافلة المدرسة، ثم أعطتني أدويتي وأعادتني إلى فراشي.
لا أدري كم مضى من الوقت، لكنني كنت نصف نائمة حين قررت أن أستمع لنصيحتهما وأساعد نفسي، غادرت فراشي بصعوبة، غافلت أمي الواقفة في المطبخ، وخرجت من البيت بثوب نوم، وشعر منكوش، وقدمين حافيتين، ركضت بوهن نحو الطرف الآخر من الحي، تجاهلت كل الذين ضحكوا، وكل الذين خافوا، وكل الذين قالوا عني مجنونة، وصلت الفرن، تجاوزت المتجمعين أمام نافذة البيع، اتجهت نحو الباب الخلفي ودخلت.
(أين هو؟) صرخت بجنون وأنا أتلفت حولي، بدهشة حملق بي عاملان ملطخان بالطحين، ملأت رائحة الخميرة أنفي، وناداني وهج النار، لفح وجهي وأطرافي، فسرت القوة في جسدي، تخلصت من الأذرع التي تشبثت بي، وقذفت نفسي في اللهب، أغمضت عيني بارتياح، واستسلمت ككتلة رخوة من عجين.
جسدي المتفحم مسجى منذ زمن تحت التراب، أما روحي فما تزال مضطربة، تتخبط هنا في الفرن، داخل بيت النار، الآن فقط عرفت كل شيء وتذكرت كل شيء، الآن فقط صرت شجاعةً بما يكفي، أريد أن أحكي، أن أصرخ، لكن لا صوت لي.
أخمش عجينكم بأظافري، أخربش على أرغفتكم، أحاول أن أخبركم بكل ما أعرفه، أحاول، أحاول..

ذو صلة