ربما لهذا كان صارماً معي كلما أصبتُ بنوبة برد قاسية فقدت على إثرها صوتي. كنتُ غالباً ما أصاب بالتهاب الأحبال الصوتية لمرتين على الأقل كل عام. أفقد وقتها صوتي تماماً وكأنني مصابة بالخرس. لدرجة أن شكَّل أمر فقدان صوتي هاجساً لم يفارقني حتى أثناء نومي. إذ تطاردني كوابيس تداهمني فيها كلاب ونمور شرسة، تركض خلفي محاولة نهشي، بينما أقف عاجزة أمامها عن مجرد الصراخ. أفتح فقط فمي عن آخره من الفزع دون أن يخرج منه أي صوت.
ظلَّ هاجس فقدان الصوت يباغتني كلما هممت بإجراء مكالمة هاتفية، لدرجة أني اعتدتُ اختبار صوتي بنطق بعض كلمات بلا معنى، وأظل أكررها بصوت مسموع خشية أن يقطع الطرف الآخر رنين الهاتف بصوته لأفاجأ بنفسي وأنا عاجزة عن الرد. ورغم أن هذا لم يحدث مطلقاً، إلا أنني لم أتوقف عن اختبار صوتي قبل كل مكالمة.
في تلك الأوقات التي ينقطع فيها صوتي تماماً، كان يأتيني هو بكومة من الأوراق البيضاء يثقبها جميعها من الأعلى باستخدام مسمار غليظ، يغرسه بقوة في كومة الورق المرتبة جيداً، يثقبها كلها من نفس المكان، ثم يأتي بخيط سميك يمرره من كل الثقوب، قبل أن يجمع طرفي الخيط في عقدة محكمة يتأكد بنفسه من متانتها، ثم يعلق الخيط في رقبتي، فتتدلى الأوراق فوق صدري. يضع بعدها أحد الأقلام سميكة الخط في يمناي ويأمرني بمنتهى الصرامة أن أكف تماماً عن الكلام حتى تشفى حنجرتي.
يذهب للعمل. وفور عودته يأتي إلى غرفتي ليتأكد أنني مازلت أعلق قلادة الأوراق التي أنعم عليّ بها في الصباح. يتفحص كومة الورق غاضباً، وغالباً ما يزجرني لأني لم أستخدمها واستعضت عنها بمحاولة الكلام وإهمال أوامره. أحاول الدفاع عن نفسي بنظراتي على الأقل لأنها الشيء الوحيد المسموح به، لكنه لا يلتفت لما أحاول قوله بتلك النظرات الباهتة.
أتلقى تقريعه في صمت فتزداد حدته، ويدلف إلى حجرة إخوتي الصبيان. يحذر الجميع من التعامل معي: (لا يجيبها أحد لو اتكلمت. تجيبونها حين تكتب في الورقة فقط).
يهز إخوتي رؤوسهم وهم يجيبونه بمنتهى الجدية: (حاضر يا بابا).
أشعر بعدها أنني وُضعت في عزلة إجبارية. فبعد تحذيراته الحازمة لإخوتي لن يتعاون أحدهم معي. وسألتزم الصمت كما لو كنت خرساء بالفعل، أضطر بعدها لأن ألزم غرفتي ليومين أو ثلاثة حتى تنتهي فترة حبسي الانفرادي. فلا حرية لمن لا يملك صوتاً.
بمرور الوقت أصبحت أكثر خبرة ومكراً في التعامل معه، تعلمت تمزيق بعض أوراقه قبيل عودته من العمل، كي لا يكتشف أنني لم أستخدمها، كي أنجو بنفسي من نوبات التأنيب.
حكت لي عمتي أنه كان يفقد صوته كلما مر بأزمة شديدة، كتلك التي مر بها حين قرر خطبة أمي. وقتها رفض أبوه إتمام الزيجة. كان مصمماً على تزويجه لابنة عمه لكن محبته لأمي أفسدت خططه. فانقطع من يومها عن الكلام. ظنوه في البداية يمارس إحدى حيله للضغط عليهم. لكن الأيام والأسابيع بدأت تمر دون أن يفتح فمه للحديث ولو بكلمة، وكلما حاول أن يتكلم خرجت الكلمات من فمه كالفحيح بلا أية أحرف أو كلمات.
اصطحبه والده لعدة أطباء دون جدوى، لم يتزحزح خرسه الطارئ إلا بعدما أعلن الموافقة، وابتدأوا في إجراءات الزواج.
عدتُ يومها من المدرسة وعلى صدري تترجرج الأوراق التي لفَّ خيطها حول رقبتي ليلة أمس خشية أن أفقد صوتي ككل مرة، لكني لم أجده! لم أجد سوى أمي التي كانت تنتحب بصوت عال! أجبرتني أن أبدل ملابسي. غطت ضفيريتيّ الطويلتين بوشاح أسود كوشاحها.
بعدما انصرف الجميع ودون أن أكون على دراية تامة بما يحدث، وجدتني أقطع الخيط وأنزع جزءاً كبيراً من الأوراق، ألضمها بقطعة من الخيط المقطوع، قبل أن أعيد لف المتبقي منه حول رقبتي. وضعت كومة الأوراق البيضاء إلى جوار الصبارة التي حفر لها الرجل حفرة صغيرة وثبتها جيداً إلى جواره.
كنت قد بدأت أفهم أنه فقد صوته تماماً وإلى الأبد.