لم تستطع النزعة السلمية المتأصلة في النفس البشرية أن تقف حائلاً دون وقوع المجتمعات البشرية في مغبّات الصراع وويلات الحروب منذ الأزل، لكن هذه النزعة الإنسانية المحبة لرغد العيش وطمأنينته تزداد قوة وإصراراً بشكل مطّرد مع طول أمد الحرب وارتفاع عدد ضحاياها وتأخر حسمها، وتدفع بالمتحاربين إلى الجلوس على طاولة المفاوضات ومحاولة الوصول إلى تسوية مرضية وعقد (هدنة) لوقف القتال بين الطرفين لمدة معلومة يوافق عليها زعماؤهما. والتاريخ السياسي القديم والمعاصر مليء بالهُدَن التي عقدت بين زعماء الأطراف المتنازعة أو ممثليهم لوقف القتال بين الطرفين والالتزام ببنود اتفاقية الهدنة، وهي عادة تبدأ بجلوس القيادات العليا من الطرفين على طاولة المفاوضات وتنتهي بالتوقيع على معاهدة رسمية. لكن ماذا عن الهُدَن العفوية التاريخية التي بادر إليها الجند المتحاربون في ساحة المعركة من تلقاء أنفسهم دون عقد هدنة رسمية؟! وهل من الممكن حدوث مثل هذا الأمر بأن يوقف الجيشان القتال بينهما ويقبلون على بعضهم يتحادثون ويتسامرون ولمّا تضع الحرب أوزارها بعد؟!
سيبدو ذلك وكأنه مشهد كوميدي ساخر لكنه بالفعل قد حدث!
سأستعرض هنا مثالين تاريخيين حدثت فيهما هذه الهدنة، الأول عربي قديم، والآخر غربي حديث.
أما المثال الأول فقد حدث بين أهل البصرة وخوارجها، فبعد الفراغ السياسي الذي أحدثته وفاة الخليفة يزيد بن معاوية عام 64هـ/ 683م دون اتفاق على من يخلفه في المنصب، استقلت بعض الأمصار العربية معتمدة على نفسها في إدارة شؤونها ومنها البصرة، ولم تلبث قليلاً حتى انضمت إلى حكم عبدالله بن الزبير، ثم عادت إلى الدولة الأموية بعد انتصارهم على الزبيريين، وكان أهل البصرة في كل هذه المراحل المتعاقبة في حالة حرب متواصلة مع الخوارج الذين خرجوا من البصرة إلى الأهواز والمناطق الشرقية واستولوا عليها، وهذه المناطق كانت فيئاً لأهل البصرة لكونهم الفاتحين للشرق حتى أقصى خراسان.
بعد هزائم متتالية لأهل البصرة في قتالهم للخوارج، انتخب البصريون المهلّب بن أبي صُفرة الأزدي ليقود جيشهم، وكان المهلب قائداً محنكاً قد عرف أن المناجزة في قتال الخوارج عواقبها وخيمة، فغلّب جانب الحيطة والحذر، وأذكى العيون وأقام الحراسة وخندق على جيشه، واختار المطاولة في قتالهم وترقب الفرصة ليشن هجومه، فأنهك الخوارج وأجبرهم على التراجع نحو الشرق إلى جهات كِرمان، وقد وصفه خصمه اللدود قائد الخوارج قطري بن الفجاءة التميمي موجّهاً كلامه إلى جيشه: (إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر، يمدّه إذا أرسلتموه، ويُرسِله إذا مددتموه، لن يبدأكم إلا أن تبدأوه، إلّا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المُبِرّ، والثعلب الرَّوَّاغ، والبلاء المقيم). (الكامل في اللغة والأدب للمبرد).
طالت الحرب بين الفريقين وجرت المعارك بينهما في أماكن متفرقة في الشرق بعيداً عن موطنهم البصرة، وفي إحدى هذه الوقائع حدثت هدنة عفوية بين الجيشين، توادعوا فيها وخرجوا إلى بعضهم البعض يتساءلون وينشدون الشعر بينهم، حيث يخبرنا بذلك أبو الفرج الأصفهاني قائلاً: (كان الشُراة (والشُراة لقب للخوارج) والمسلمون يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون فلا يهيج بعضهم بعضاً)، ومن أبرز الأحاديث المتداولة بين الطرفين كانت حول مسألة الأفضلية بين الشاعرين جرير والفرزدق، وكان المهلب قد رفض التحكيم بينهما حينما سأله البصريون تجنبّاً لهجاء أحدهما له قائلاً: (أردتم أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني ما كنت لأحكم بينهما)، وأشار عليهم بسؤال الخوارج إذا وقفوا يتحادثون فهم لا يأبهون بشأنهما.
وتواقف أبو حُزَابة التميمي مع رجل من شعراء الخوارج وخطبائهم المشهورين وهو عُبيدة بن هلال اليشكري، يتحادثان ويتساءلان وتعاهدا على صدق الإجابة، وجرت بينهما محادثة طويلة طريفة ساقها أبو الفرج في كتابه الأغاني، وقد استغل أبو حزابة هذه الفرصة بعد أن فرغ من الإجابة عن أسئلة عبيدة حول رأيه في سياسة الولاة وإدارتهم للأموال، فقال أبو حزابة لعبيدة: أي الخمر أطيب أخمر السهل أم خمر الجبل؟ فنهره عبيدة على سؤاله، لكن أبا حزابة ذكّره بتعاهدهما على الإجابة، فقال عبيدة: أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر وخمر السهل أحسن وأسلس. ثم سأله أبو حزابة عن نساء رامهرمز وأرّجان أيهن أفضل؟ فنهره عبيدة مرة أخرى ثم أذعن وأجاب بأن نساء رامهرمز أرقّ أبشاراً ونساء أرّجان أحسن أبداناً. فقال أبو حزابة: فأي الرجلين أشعر أجرير أم الفرزدق؟ قال عبيدة: عليك وعليهما لعنة الله أيهما الذي يقول:
وطَوى الطِّرادُ مع القِيادِ بطونَها
طيَّ التِّجار بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا
قال أبو حزابة: جرير، فقال عبيدة: فهو أشعرهم.
ومن الأخبار الطريفة في هذه الهدنة القصيرة أن عبيدة كان ينادي جيش البصرة ليخرجوا إليه، فيخرج إليه بعضهم ويأتون إليه، فيخيّرهم عبيدة بين أن يقرأ عليهم القرآن أو يُنشدهم الشعر، فيقولون له أما القرآن فنعرفه حق المعرفة كما نعرفك فأنشدنا، فيقول عبيدة: يا فسقة، قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن، ثم ينشدهم الشعر -وكان شاعراً- ويستنشدهم، فيظلوا ينشدون بعضهم البعض حتى يملّوا ثم يفترقون. (من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (بتصرف)). ولم تستمر هذه الهدنة القصيرة، فقد عاد القتال أشدّ ضراوة، واستغل المهلّب الخلاف الذي دبّ بين الخوارج وتفرّقهم، فقضى على فِرَقِهم الواحدة تلو الأخرى.
ننتقل الآن من القرن السابع الميلادي في أقصى شرق بلاد فارس إلى القرن العشرين في أقصى غرب أوروبا لنتعرف على المثال الثاني.
في أواخر شهر يونيو من عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى، وحشدت الدول جنودها ورغّبت مواطنيها في الانضمام إلى الجيش وأخبرتهم أن الحرب لن تطول وأنهم سيعودون إلى أوطانهم ويقضون أعياد الميلاد مع أهاليهم، لكن الحرب طالت ومضت أشهر الصيف والخريف وأقبل الشتاء بصقيعه وأمطاره وثلوجه وهم في خنادقهم الموحلة على طول الميدان الغربي. يقول أحد الجنود البريطانيين المشاركين: (كان الجو بارداً في الخنادق، في الواقع كانت الرصاصات تأتي في المرتبة الثانية بعد البرد والمطر والطين)! (جريدة ويستمورلاند 9 يناير 1915 نقلاً من موقع المتحف الوطني التذكاري للحرب العالمية الأولى).
في منطقة فلاندرز البلجيكية، كان تبادل إطلاق النيران مستمراً بين الخنادق الألمانية والبريطانية والفرنسية، وكانت الخنادق الثلاثة قريبة من بعضها البعض تفصلها ساحة مليئة بجثث القتلى المتجمدة، حيث إنهم لم يستطيعوا دفن جثث قتلاهم لخطورة الخروج من الخنادق إلى الساحة المكشوفة وسط تبادل إطلاق النار بين الألمان من جهة وبين التحالف البريطاني الفرنسي من جهة أخرى، واستمر هذا الحال حتى حلول ليلة عيد الميلاد، وفي هذه الليلة الباردة المقمرة وضع الألمان على طول حاجز خندقهم أشجار عيد الميلاد والشموع المرسلة إليهم من مركز القيادة الألمانية، كما أرسلت الأميرة ماري (ابنة الملك جورج الخامس) هدايا إلى الجنود البريطانيين عبارة عن صناديق تحتوي على التبغ والحلوى. بدأ البريطانيون يشدون بغناء ترنيمة دينية، ليشاركهم الألمان غناء نفس الترنيمة بالكلمات اللاتينية Adeste Fideles (*)، مما شجع بعضهم البعض في الصباح الباكر على المناداة بالأمان والخروج من خنادقهم للالتقاء بالساحة وتبادل الطعام والسجائر، ثم شرعوا بدفن جثث قتلاهم التي بدأت تكسوها الثلوج.
كان العديد من جنود الاحتياط الألمان قد عملوا في بريطانيا قبل الحرب ويتحدثون الإنجليزية جيداً، وتحكي الروايات عن إقامة مباريات لكرة القدم بين الجانبين. (يوجد نصب تذكاري حاليّاً في مدينة ليفربول لجنديين بريطاني وألماني يمدان أيديهما بانحناء على وجل للمصافحة وكرة القدم على الأرض في منتصف المسافة بينهما، تخليداً لهذه الهدنة القصيرة التي عُرفت لاحقاً باسم (هدنة عيد الميلاد)).
يقول المؤرخ الأمريكي (ستانلي وينتروب) مؤلف كتاب (الليلة الصامتة: قصة هدنة عيد الميلاد في الحرب العالمية الأولى): (في ثمانينات القرن العشرين، أثناء بحثي عن الأيام التي سبقت هدنة الحرب العالمية الأولى، اكتشفت أن هدنة حدثت على ما يبدو في عيد الميلاد عام 1914 وقد سخر معظم المؤرخين من ذلك؛ ولا يزال البعض يفعل ذلك).
ويخبرنا (وينتروب) أنه بحث في أرشيف الصحف البريطانية الصادرة في يناير 1915، وأنه قد تفاجأ بوجود رسائل للجنود على صفحات الرسائل إلى المحررين، فلم تكن الرقابة قد فُرِضت بعد على بريد الجنود. ووجد في رسائل الجنود العديدة أخباراً عن تبادل هدايا عيد الميلاد، وغناء ترانيم الأعياد، وحتى لعب كرة القدم. ويقول وينتروب: (لم يكن لدى الجندي التقليدي رغبة قوية في قتل العدو الذي كان في النهاية نظيره غير المتوقع؛ مزارع، وعامل مصنع، وحلاق، وسائق سيارة أجرة، وبائع حليب).
لم تستمر هذه الهدنة طويلاً، وقد وصل خبرها إلى القيادات العليا لكلا الجانبين التي أوقفتها على الفور واستأنفت القتال وعاقبت الجنود على هذا التصرف وأبعدتهم فوراً عن ساحة القتال إما بالإيقاف وإما بالنقل إلى الميدان الشرقي.
ومن اللطيف ومن الشيّق أن نعرف أن أديباً وناشراً لبنانياً أشار إلى هذه الهدنة المغمورة في وقت مبكر بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بثلاث سنوات، فقد ذكر يوسف البستاني خبراً مقتضباً عنها في كتابه (نوادر الحرب العظمى) الصادر عام 1921 الذي جمع فيه بعضاً من قصص الحرب التي نُشرَت في الجرائد والمجلات العربية والأجنبية الصادرة في فترة الحرب. قال فيه: (اتَّفق الألمان والإنجليز في بعض الجهات من خط القتال على هدنة يوم عيد الميلاد، ثم خرج الفريقان ولعبا بالكرة وجرت بعض الزيارات بين ضباطهما، ولما انتهى يوم العيد عاد القتال أشد مما كان).
ومن ناحية أخرى فقد صدر في عام 2005 الفيلم الفرنسي (Joyeux Noël) الذي يتناول قصة هدنة عيد الميلاد، وهو من إخراج الفرنسي كريستيان كاريون، وبطولة ممثلين من فرنسا وألمانيا وأسكتلندا.
بعد استعراض المثالين التاريخيين للهدنة العفوية يمكننا أن نلحظ تشابهاً في ظروفهما كان له أثره البالغ في حدوثها، ففي الحالة العربية القديمة كان ميدان القتال بين الفريقين بعيداً عن وطنهما (البصرة)، وكذلك كان الحال في المثال الأوروبي الحديث حيث كان القتال بين الألمان والبريطانيين في أرضٍ بلجيكية، فلا يوجد دفاع عن حدود الوطن في الحالتين، ونلحظ طول أمد الحرب في الحالتين أيضاً. كما نلحظ أن الجنود في كلا المثالين لم يكونوا جنوداً عسكريين محترفين قد تعلموا الانضباط العسكري وتدرّجوا في رُتَبٍ عسكرية، ففي الحالة العربية كان الأهالي يقاتلون إذا دعت الحاجة ثم يعودون ليزاولوا أعمالهم المختلفة وهم على كل حال كانوا سابقين لمرحلة تأسيس الجيوش النظامية، أما في الحالة الأوروبية الحديثة فالجنود الذين شاركوا في الهدنة غالبيتهم من الجنود الاحتياطية المنضمة حديثاً إلى الجيش كما أوضح ذلك المؤرخ الأمريكي (ستانلي وينتراوب) في كلامه السابق.
(*) غنت الفنانة فيروز هذه الأغنية في ألبومها (أغاني الميلاد في كنيسة سانت مارغرت وستمنستر - لندن) الصادر عام 1989.