مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

فتنة المسرح الأسود.. وسائل فرجوية جديدة تقتحم الخشبة

المسرح هذا العالم الشاسع، لا يفتأ أن يوفر أساليب متنوعة تدعم مساره الثري بالإبداع، بطرق شتى مواصلاً رسالته الإنسانية، ومسلماً الراية لمبدع بعد مبدع ليتفننوا في رسم مشاهد ابتكارية في لوحة الخشبة الفاتنة، ومن المسرح الكوميدي والاستعراضي إلى الواقعي والملحمي والأوبرالي والغنائي والعبثي وتصانيف كثيرة لا تزال تظهر في ساحات العروض المسرحية وصولاً إلى نوع حظي باهتمام من محبي التجريب لتقديم وسائل مختلفة لإيصال الأفكار عبر النصوص المؤلفة بأشكال غير تقليدية، فظهر المسرح الأسود مُقدّماً نفسه بالمميزات التي ينفرد بها عن بقية المسارح.
العتمة المضيئة
يعد المسرح الصامت (البانتومايم) أحد المسارح التي انحازت للتعبيرات الجسدية الموصلة للمعاني، من خلال ممثل يستخدم كافة قواه الجسدية لتعويض غياب الصوت، من إيماءات وحركات، مستعيناً بأطرافه وملامحه وبوجهه الذي يخفيه بطبقة من الطلاء الأبيض، مرتدياً قفازات بيضاء أيضاً لإبراز تحركاته، حيث يقدم عرضاً ممتعاً مستغنياً عن الكلام المنطوق، مستعيناً فقط بالكلام المرئي الذي يتشكّل عبر لغة الجسد.
ومع مجموعة من الإضافات والفروقات عن مسرح البانتومايم ظهر مسرح مغاير باتجاه جاذب للانتباه، وهو المسرح الأسود، حيث الظلام هو السائد، مسرح يتكوّن من السواد، بداية من ممثليه بملابسهم، وصولاً إلى كل مكونات العرض من قاعة وديكور وأرضية وسقف إلا بمقدار يسير يُظهره الممثل لغاية بصرية، حيث يتجلى الركح المسرحي في موقع الممثل الذي يخطف الأضواء ببهاء حضوره المتألق، فلا يرى المتفرج وجوه الممثلين ولا حتى أجسادهم المتجلببة بالسواد، وهو سواد لا يرتبط بالحزن أو بالهيبة أو بأي معنى محدد، بل يرتبط أساساً برؤية جمالية تختلف في صياغتها من مخرج لآخر.
ومن السواد تنبثق الأشعة فوق البنفسجية التي تتناغم مع حركة الممثل لتتولى إظهار عوالم باذخة الألوان من حروف وكلمات وصور وأماكن وأشياء تظهر وتختفي، راسمة صور براقة وكأنها منبثقة من إرادة الممثل الذي كما الساحر يطوّع المستحيل ويفعل العجائب في دلالة على مدى التواصل العميق بين الممثل والطاقم المتكامل خلف الكواليس الذين يمدونه بالوسائل المطلوبة لتفجير الطاقات الأدائية أثناء العرض.
ينبعث ضوء من مصدر غير مرئي، إنها اللمبة السوداء، لنرى من خلالها ستارة أو جداراً أو قبعة أو حذاء أو حصاناً أو ورقاً، الأشياء تتراءى لنا، إنها موجودة بالفعل، لكنها لا ترى سوى بواسطة الأشعة التي تنعكس على تلك الأشياء التي تغطيها الألوان الفسفورية، فتضيء من خلالها فقط، فلا ضوء آخر بإمكانه إظهارها، لتتبدى للمتفرج متعة المشاهدة وشغف الترقب.
سينما.. ألعاب.. وسائط.. مسرح عصري
نحن أمام مشهدية فريدة، تتغلب على المحدودية التي تقيد المسرح العادي، بالاستعانة بالتقنية استطاع المسرح الأسود أن يطوّع جملة من الإمكانيات المتعددة المهام في خدمة المسرحية. حيث يحظى المخرج بمعاونة مساعديه بجملة وافرة من القدرات التي توسّع نطاق المسرح وتجعله يستعير من بقية الفنون موظّفاً إياها لمصلحة الخشبة السوداء. فقد يرى المتفرج مستطيلاً هو كل مساحة العرض ليتحول بين لحظة وأخرى إلى مثلث أو سفينة تتحول إلى طائرة، بمساحات تتمدد وتتقلص بحسب نوعية المشهد، إنه مسرح سينمائي من ناحية، وشعري من ناحية أخرى، بل هو مسرح تشكيلي وحتى فوتوغرافي، واعتماداً على مهارة المخرج والجهد المبذول في التدريب والتجهيز للعرض تتصاعد أسهم الإبهار للمتلقي.
قد يظهر الصوت، لكنه ليس صوت الممثل، إلا أنه يظهر كما لو أنه صوته، وحركات الممثل تدل على أنه صوته، صوته المسرحي وليس صوته الحقيقي.
بهيئته التي لا ترى، يتولى جسده بالنيابة عن صوته تنفيذ جميع المهام الركحية الموكلة إليه. في كون مظلم يواصل الممثل إبداعه، إننا لا نرى وجهه، لكننا نرى تألقه، وذلك ذروة الإبداع. تعويضاً عن صمته يستعين بدقة الحركة وبالتوافق البصري المؤدى بانسيابية متوازنة لا متسارعة ولا متباطئة، ليرقص متناغماً مع الموسيقى، ويومئ لحركة زميله الممثل، ويحرك شفتيه تزامناً مع الكلمات المسجلة المذاعة على أسماع الحضور.
لا مجال للحوارات الطويلة، ولا للجلوس الراكد الخالي من التفاعل الحركي، إنه عمل مضنٍ من الجهود الدؤوبة لكافة طاقم العمل.
بالتالي فالمسرح الأسود لا يتوجه لآذان الجمهور بل لعيونهم، عبر اللغة التشكيلية التي تُبرِز الخطوط واللافتات والكلمات والأشكال والتماثيل، فإن عيون المتفرجين تمتلئ بالمؤثرات البصرية التي تنهال لا تسارعاً، إنماً توازناً، لنحت المشاهد الباذخة الجمال.
فقد نرى السندباد طائراً في بساطه السحري، ثم نراه مختفياً لا أثر له، ثم نراه جالساً على ذات البساط في صحراء قاحلة. كل ذلك في صور متتابعة بطلها الممثل نفسه.
الممثل.. المجهول والمعروف
قد نرى جسد الممثل كاملاً وقد نرى رأسه وقدمه فقط، وكأنه لا يد ولا بطن له، التقنية تطل برأسها في هذه الألاعيب، خالقة حكايات متوالية من الفن المبتكر.
الممثل يرتدي الزي الفسفوري لإظهار أشياء وإخفاء أشياء أخرى، الجمهور لا يعرفون من يكون، وأيضاً، لا يعرفون أحداً سواه! وهناك صقور تطير وذئاب تسير وزهور تذبل ونخيل يزدان بالثمار تأتي وتتلاشى.
ففي مسرحية دوامة الحياة نرى الممثل يظهر باللون الأزرق ممسكاً بكتاب، وسرعان ما يرمي الكتاب الذي يطير مختفياً فيما ينبثق الموبايل متجهاً نحو يدي الفنان الذي يروق له هذه الجهاز فيتخلى عن الكتاب بسببه، منهمكاً في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي بتطبيقاته المتنوعة.
فيما تظهر من أقصى اليسار ساعة خضراء تتسارع عقاربها في الدوران، وبعد أن يرمي الممثل جواله بقليل يتقدم نحوه (لابتوب) فيبدأ بالضغط على أزراره فيما يبدو أنه يجري أعمالاً تجارية تدر عليه المال والسيارة والمنزل الذين يظهرون بجواره كنتيجة لتفكيره وجهوده، فيمد يده قابضاً عليهم ليستكمل تجارته الإلكترونية المربحة، وتتواصل الأحداث مترافقة معها الموسيقى التصويرية وحتى الأغنيات والأصوات أيضاً وكلها تُعبّر عن واقع الحال المضني في الكفاح المرير للممثل بين الحياة الحقيقية والافتراضية وهواجس الروح ورغبات الجسد وملذاته، فهذا الفنان الأزرق في هذا الفضاء الأسود يغدو محارباً بعد أن يظهر البوق ويدق معلناً عن اندلاع الحرب، المحارب ممتشقاً سيفه، محتمياً بدرعه، مرتدياً بزّته العسكرية، وقد عقد العزم على خوض المعركة ضد عدوه، عازماً على النصر لذاته الحقيقية، ليظفر بالسلام الكامل، إنها معركة لا تقبل الهدنة ولا ترضى بالخسارة، عبر الأشياء والألوان والشخصيات في نزاع مثير تتفاعل مجرياته بطرق مذهلة وكل ذلك من دون أي وجود حقيقي لهذه الأشياء.
آليات مختلفة للإعداد والتنفيذ
تنقسم مشاهد النص المكتوب في المسرح الأسود إلى فصول، الفصول مسجلة كل منها على حدة دون حاجة للترابط، لكن يظهر الترابط في الصورة الشاملة للعرض فتنجلي للجمهور سيمياء التسلسل والتوافق بين مكونات النص.
إننا نسمع البكاء والضرب والركض والنداء بينما أفواه الممثلين صامتة، فليس شرطاً أن الصوت المسجل هو صوت الممثل نفسه، ففي أحيان كثيرة يكون صوت شخص يتمتع بموهبة التعليق الصوتي بما تشترطه من مهارات تنويع النبرات ووضوح مخارج الحروف ونقاوة الصوت.
إذن الطاقم المسرحي لن يقتصر على الفنانين ومسؤولي الديكور والإكسسوارات وبقية المهام التنظيمية، إنما سيشمل الكُتّاب والمصوّرين والرسامين والحلاقين والرسامين والحرفيين وأي صاحب موهبة يستدعي العرض المسرحي وجوده أو إسهامه في ناحية محددة من نواحي العرض.
إلى جانب أدوار قيادية للممثلين بحسب توزيعهم في مجموعات في الستائر التي في اليمين واليسار وخلف الستارة الوسطى بحيث يكون لأحدهم دور يتولى بموجبه تنسيق أدوار من معه بحسب الترتيب المعد مسبقاً، ففي مساحة كلها ظلام قد يحدث خلل إن لم يكن هناك تنسيق دقيق لمجريات العرض لكيلا تتداخل المهام أو تُنسى أو يُقدّم أحدها قبل الآخر مما يفسد عنصر المفاجأة ويبطل التشويق ويفكك التسلسل المعتمد.
ومع ظهور الأفكار الجديدة في التدريبات لابد من تعديل تراتبية المشهد لإدخال تلك الأفكار مع ما يلزمها من تعديلات تقنية ومكانية وتعبيرية، بما يُسهم في تعزيز فصول المسرحية، فلا مكان مطلقاً للارتجالات اللحظية، كما أن أي فكرة مستجدة لا يمكن تقديمها ما لم يتم تعديل المشهد ليضمها ضمن اللقطات المقدمة في العرض النهائي.
على النقيض من المسرح التقليدي الذي يعتمد على الحوارات والديكورات الثابتة، فإن المسرح الأسود يستلزم جهوداً مضاعفة من الطاقم التقني الذي لابد أن يكون أعضاؤه من الخبراء في تخصصهم لضمان استخدام الإضاءة بالشكل الصحيح، ولتهيئة المسرح ليكون مستوفياً لكل المتطلبات الواجب توافرها.
إنه بسيط لكنه صعب
البساطة أساسية في التعريف بالغرض من المسرحية المؤداة، في الافتتاح تكفي عبارة موجزة لتوضيحها، كأن تكون حفل افتتاح مهرجان مسرحي، أو قصة حب، أو حرب أو اغتراب، وذكر أسماء طاقم العمل من ممثلين ومشرفين وتقنيين إضافة إلى المخرج، ويمكن تقديمهم بوسائل بصرية كثيرة كأن يقف ممثل في وسط المسرح مضاء بلون ما يُبرز جسده بينما وجهه مغطى بالسواد، ويتولى الممثل استدعاء الأسماء بحركات يديه جاذباً اسماً بعد اسم، فتظهر الأسماء على يمينه وشماله متقاربة مكتوبة بألوان متناسقة بترتيب محدد لكل اسم، وكأننا نشاهد فيديو من شاشة الجوال لتصميم جرافيكي احترافي.
يمتاز هذا المسرح بالستائر التي تضمه للعالم الخيالي الذي يعيش فيه، فمن الأمام والخلف وجوانبه يميناً ويساراً وسقفه تغطيه الستائر، وبما أن وسط المسرح هو قلبه ففي وسطه من الخلف ستارة وأمامها أيضاً ستارة وأمامها كذلك ستارة منخفضة عنها، إضافة إلى ستائر أخرى جزئية تتعلق ببعض الأشياء التي ستظهر في مرحلة ما من العرض.
وحتى للممثلين هناك إشارات فسفورية لتوضح لكل ممثل موقعه وخارطة تحركاته على الخشبة بحسب دوره وتوقيت أدائه.
فكل جزئية لابد أن تظهر في وقتها المحدد ثم تختفي وكأنها لم تظهر قط، للمحافظة على (طزاجة) اللحظة وفرادة المشهد، الدقة والتناسق هما سر الغرائبية المذهلة في هذا المسرح البديع.

ذو صلة