مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

صناعة الفن من المواد المهملة والبالية (أشيائي المفضلة).. مغامرات تشكيلية

ليست هناك وصفة جاهزة للإبداع، ولا معايير محددة للجمال. فبإمكان الفن دائماً فرض رؤاه ومعطياته الخاصة، وتخليق عوالم مدهشة طازجة، على غير مثال مسبوق. ويبقى التشكيل دائماً من أكثر الفنون قدرة على إحداث انزياحات ومفاجآت تتجاوز العادي والمألوف.
وفق هذا المنطلق، تأتي المغامرات الفنية في سلسلة معارض (أشيائي المفضلة) للتشكيليات المصريات، التي تقام سنويّاً في (مشربية جاليري) للفن المعاصر بالقاهرة، وآخرها المعرض الجماعي المنعقد في صيف 2024. وهؤلاء الفنانات النابهات استطعن بجسارة أن يفرضن كلمتهن المتمردة بالتعاطي مع المواد المهملة والقديمة والبالية، وإعادة صياغتها في أعمال بصرية مركبة، تشع حيوية ووضاءة.
المعنى البديل للوطن، هو ذلك الكائن خارج البنايات الأسمنتية المتراصة كعلب الكبريت الضيقة. الوقود الصديق للبيئة، يمكن أن ينير العالم ويشعل الأرواح. الزجاجات المذابة، صالحة لأن تكون شجرة ورسالة خضراء لإنقاذ البشرية. الهوائيات والأطباق فوق أسطح العمائر، هي شواهد الاستعمار التقني الجديد وسقوط الجميع فرائس للميكنة.
هكذا، تأتي أعمال التشكيليات: كاملة بسيوني، ورانيا عاطف، وأفروديت السيسي، ومليكة حسن، وغيرهن، منفتحة على المكامن الجوهرية في الوجود، خارج الأطر الثابتة والمعطيات الجاهزة. وتترجم أعمالهن المركبة فلسفة مشروع فني كبير لتحويل (المهمل) إلى (ثمين). وهو بمثابة برنامج إرشادي لإعادة التدوير، حيث يجري التفاعل الفني الابتكاري مع بقايا الأثاث والأشجار والخامات والمواد المهملة والبالية من الأقمشة والكرتون والورق والبلاستيك والزجاج والخشب والمعادن وغيرها.
ولا تكترث فنانات (أشيائي المفضلة) بتقديم معادل تشكيلي لنظرية (جماليات القبح). فوفقاً لتصوراتهن، كما يبدو من أعمالهن، فإن أصابع الفن التي تصنع الجمال لا يمكن أن تتفاعل مع عناصر القبح، بل إنه قد لا يوجد قبيح في هذا العالم على المستوى المطلق. وإنما توجد حالات معينة تصير فيها العناصر عشوائية أو غير منتظمة بالمفهوم الأوليّ المباشر. وبإعادة صهرها وصياغتها وتركيبها من منظور مغاير في علاقات جديدة، تتكشف إمكانات واحتمالات لانهائية للجمال.
تقدم الفنانة كاملة بسيوني عدداً كبيراً من الأعمال والتكوينات المجسّمة التي تبحث فيها عن معانٍ مختلفة جديدة للوطن، طارحة أسئلة عن علاقة الإنسان ببيته (وطنه الصغير) وبلاده (وطنه الأكبر)، ولماذا يضطر البعض إلى الهجرة ومغادرة الديار لانعدام الأمان في بلادهم، وهم بتلك الهجرة يتخلون عن ذواتهم وأمانهم الداخلي.
تقيم كاملة بسيوني عالمها من الكرتون والورق المقوى والأسلاك المعدنية وقصاصات الأقمشة ونثارات الخشب وغيرها من الخامات، التي تستخدمها بحساسية لإبراز انفعالات الإنسان وتوتراته حال إقامته في بلاده، أو عند نزوحه عنها مهاجراً أو منفيّاً.
تلجأ كاملة بسيوني إلى الفانتازيا في طرح تصورات تشكيلية جديدة، كأن تشخّص المنازل على هيئة عربات متحركة لها عجلات، معبرة عن إمكانية رحيل البيت أو الوطن نفسه بكل من فيه من بشر، وانتقاله من موضع إلى آخر في الجغرافيا أو التاريخ.
من جهة أخرى، تقدم كاملة بسيوني المساكن الورقية المهجورة كمعادل نفسي للطمأنينة، إذ قد يضطر المرء إلى الذهاب إليها تحت وطأة الظروف القاسية، أملاً في السكون والراحة، وهرباً من فوضى الحياة وضوضائها.
كاملة بسيوني، فنانة بصرية ومصورة مستقلة، حصلت على البكالوريوس في السينوغرافيا من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة في عام 2009، وعملت رسامة لكتب ومجلات الأطفال، وشاركت في العديد من المعارض الجماعية في مصر وخارجها.
وبعنوان (أخضر)، تقدم الفنانة أفروديت السيسي تكويناً على هيئة شجرة، تحيط بها نثارات خضراء من أوراق الأشجار، وتقود فلسفة الاخضرار إلى توجيه رسالة إلى المتلقي بضرورة الحفاظ على الطبيعة، ونشر اللون الأخضر في كل مكان، والتصالح مع البيئة بوصفها من الأصدقاء.
وقد توصلت أفروديت من خلال عملها في إعادة تدوير الزجاج إلى أن القمامة هي موارد مُهدرة، ويمكن استثمارها فنيّاً وجماليّاً واقتصاديّاً عن طريق إعادة التدوير، وصياغة تشكيلات مركبة تحمل العديد من المعاني والأفكار المستحدثة.
تمكنت أفروديت كذلك من إذابة الزجاجات وإعادة تشكيلها بمعطيات مختلفة، كأن تستخدمها مثلاً في بناء جذع شجرة غضة، وتستغل أفروديت الأشياء العادية واليومية والمجانية من أجل التقليل من هدرها من جهة، ومن أجل إطلاق طاقات جمالية من جهة أخرى.
حصلت أفروديت السيسي على الماجستير في فن الزجاج من جامعة حلوان في عام 2016، وتسعى دائماً إلى اكتشاف اتجاهات جديدة في هذا الفن، بإضافة طابع جديد وأشكال مبتكرة لأعمالها الفنية تميزها عن الأعمال المماثلة التقليدية.
من جهتها، تقدم الفنانة رانيا عاطف تصورّاً حداثيّاً للمدينة العصرية، الاستهلاكية، المزدحمة، ذات البيوت الكرتونية المتلاصقة، وقد حجبت سماءها تماماً أطباقُ استقبال الإشارات التليفزيونية الفضائية، فمنعت عنها الهواء وأشعة الشمس.
هذه الثورة المعلوماتية والاتصالاتية وفق الفنانة هي الغزوة الجديدة التي تقضي على الحياة البريئة في المدينة، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان سقوط المدن في أيدي الغزاة والمستعمرين في الماضي، فالاستعمار اليوم هو الألينة والميكنة والرقمية الخانقة وفقدان الأصالة والملامح والهوية.
رانيا عاطف، فنانة تصويرية ورسامة، تتسم أعمالها بمسحة سوريالية، وتعتمد على المزج بين الرسم والنحت والأشكال التوضيحية، وتستخدم في أعمالها المركبة خاماتٍ متنوعة مثل الورق والسلك والطين وغيرها، وقد شاركت في معارض ومهرجانات محلية ودولية متعددة.
وفي تكويناتها البصرية، تعطي الفنانة مليكة حسن اهتماماً خاصّاً لجذوع الأشجار وجذورها وأغصانها وأوراقها، فبمقدور الشكل الفني أن يكون أيضاً منتجاً له فوائد اقتصادية وصديقاً للبيئة، كما في أباجورة ذات إضاءة طبيعية صممتها من خشب الأشجار تلائم غرفة مكتب مثلاً بأرضية من الباركيه.
تستخدم الفنانة مليكة حسن وسائل تصنيع فعالة من أجل إحياء تراث المنتجات المصنوعة يدويّاً، وتسعى الفنانة إلى تصميم واختبار وعرض الاحتمالات الممكنة للتعامل مع الخامات شديدة التحمل في تصميماتها.
تتميز الطاولات والمقاعد الخشبية الصغيرة التي صممتها مليكة حسن بتناسق وجمال المنظر، وتبدو الأغصان والألواح المتشابكة في أعمالها مصممة ببراعة لتصير أدوات منزلية مهيأة للاستخدام، وفي الآن ذاته توفر الراحة وتروج للاعتناء بالبيئة واتباع أسلوب حياة أكثر مسؤولية إزاء الطبيعة.
تستمد مليكة حسن الإلهام الفني من كل ما يحيط بها من مواد وخامات لها القدرة على بعث رسائل خاصة مثيرة إبداعيّاً لخيال الفنان، وقد حصلت مليكة على بكالوريوس العلوم السياسية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتخصصت في الدراسات البيئية، ونالت دبلومة في تصميم المنتجات.
(أشيائي المفضلة)، معارض جماعية مبتكرة، إنسانية، تعيد إلى الأشياء أفضليتها وحساسيتها وطاقتها في عالم قاسٍ يهدر كل ما هو جميل ببساطة مخجلة.

ذو صلة