مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

50 عامـاً من الرسوخ

أن تمر خمسون عاماً على تأسيس إحدى المجلات الثقافية في عالمنا العربي، فذلك معناه قوة تلك المطبوعة على الصمود في منافسات لم تكن يوماً يسيرة، بدءاً من المطبوعات الثقافية التي سبقتها، ومروراً بقلة شريحة المقبلين على المطبوعات المخصصة بالكامل للشأن الثقافي، وأخيراً تحديات الثورة الرقمية وصعود نجم البدائل الرقمية الواسعة الانتشار والتأثير.
إن بقاء المجلة العربية في أداء رسالتها طوال خمسة عقود يؤكد أن هذه المجلة أصبحت راسخة رسوخ الجبال على الأراضي، وأنها أصبحت شيئاً أساسياً في حياة القراء والمثقفين والمهتمين بمتابعة ما يدور على صفحاتها من مقالات وموضوعات وقصائد وقصص وتحقيقات وقضايا وحوارات وتحليلات.. وكل صور وأشكال الصحافة الثقافية الرصينة والمتجددة.
المراكز والأطراف
نحن نعرف أن المجلة العربية تأسست بأمر من الملك فيصل -يرحمه الله- عام 1394هـ/ 1974م. ورأس تحريرها آنذاك الدكتور منير العجلاني، وصدر عددها الأول في جمادى الآخرة - رجب 1395هـ الموافق يونيو - يوليو 1975م. وتم تقديمها إلى الساحة العربية باعتبارها (مجلة الثقافة العربية)، بهدف تعزيز الثقافة العربية ومواكبة الأعمال الأدبية من خلال نشر الآراء والدراسات ومناقشة القضايا الثقافية والأدبية بأنواعها كافة.
وقد استطاعت المجلة طوال تلك السنوات وعلى مدى أكثر من جيلين أن تفي بالتزاماتها، وتحقق أهدافها وتستقطب أهم الكتَّاب والمبدعين في المملكة العربية السعودية وفي العالم العربي، وهذه برأيي مهمة مزدوجة في غاية الأهمية، فالمثقف في منطقة الخليج كان دوماً بحاجة إلى منصات متحررة من تقسيمات المراكز والأطراف، ومحطات التقاء تجمع المبدعين العرب من الخليج إلى المحيط في مكان واحد، وتطبع وتوزع في جميع أسواق العالم العربي.
إثراء حركة الثقافة العربية
لقد تمكنت المجلة العربية منذ تأسيسها أن توجد لنفسها مكاناً رفيعاً بين المجلات العربية، وعززت تلك المكانة بتعزيز حضورها بمطبوعات أخرى، ومثلما صدرت عن العديد من المجلات الثقافية سلاسل كتب أخرى -غير المجلة- مثل كتاب الهلال وروايات الهلال، ناهيك عن المجلات الأخرى مثل المصوّر وحواء والكواكب وطبيبك الخاص.. وغيرها. ومثلما صدر عن مجلة العربي، مجلة العربي الصغير، وكتاب العربي؛ استطاعت المجلة العربية أن تضيف إلى أعدادها منذ العدد رقم 240 الصادر في مطلع عام 1418هـ/ 1997م كتاباً مجانيّاً اعتبرته إهداءً منها لقرائها في موضوعات تهم القارئ المعاصر في التراث والآداب والتاريخ والعلوم والموضوعات الأخرى ذات الطابع الثقافي العام، بما يثري مكتبته ومقتنياته من الكتب الثقافية العامة والمتخصصة.
ولا شك أن في تلك الخطوة إثراء لحركة المطبوعات العربية، وحركة الثقافة العربية بعامة، وقد لاحظنا أن هذه المطبوعات لا تقتصر على الكتَّاب السعوديين فحسب، بل إنها تشمل كتّاباً من معظم الدول العربية، مما يرسخ فكرة أن المجلة العربية ليست مجلة سعودية محلية، ولكنها مجلة للثقافة العربية والكتَّاب والمبدعين العرب، بل لكل من يتحدث العربية ويكتب بها حتى لو كان من غير أهلها.
خطة تطويرية
إن مجلةً أصبح عمرُها الآن خمسين سنة، بالتأكيد لن تستمر على نفس الوتيرة أو على نفس القضبان التي وضعت عليها في عام 1974 فسُنَّة الحياة هي التطور والمواكبة لكل ما هو جديد، وعلى ذلك بدأت المجلة منذ عام 2010 تنفيذ خطة تطويرية لتكون مركزاً ثقافيّاً أكثر شمولية، من خلال منشورات تُعنى بالتراث الثقافي والكتب المؤلفة باللغة العربية، والكتب المترجمة، وأخرى للأطفال تشمل فئاتهم العمرية كافة، من خلال تعاون مشترك بين المجلة العربية ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، لترجمة أبرز الكتب من دور النشر العالمية.
وأعتقد أن هناك أدواراً أخرى آتية سوف تضطلع بها المجلة العربية، وبخاصة في عهد رئيس تحريرها الحالي الزميل محمد عبدالله السيف، ومدير تحريرها الزميل عبدالعزيز الصقعبي، وبقية الزملاء العاملين في تحرير المجلة.
وكأي مجلة ثقافية كبرى تنشر الملفات المهمة التي ترتبط بحركة الحياة والثقافة والفكر والتي تكون دائماً مرجعاً للدارسين والباحثين والمهتمين والطلاب المتخصصين في مادة ما، لفت انتباهي -ربما بحكم المهنة والاهتمام- ملف الأرشيف الصحفي في عدد من أعداد المجلة الأخيرة، خصوصاً في العصر الرقمي الذي نعيشه حالياً، وهل بالضرورة رقمنة الأرشيف الصحفي الورقي الذي يوجد غالباً في معظم المجلات والجرائد التي بدأت حياتها قبل عصر الرقمنة وقبل عصر الحاسوب. من وجهة نظري لا بد من تلك الرقمنة، وإلا ضاع مثل هذا الأرشيف الورقي وأصبح في مهب الريح.
الأرشيف الرقمي وخطر الزوال
وقد توقفتُ عند نقطة جوهرية، وهي أن المطبوعات (صحف ومجلات) خصوصاً إن كانت غير حكومية، قد تنتهي مثل أي شركة تنتهي ويزول ترخيصها من الوجود، وبالتالي مَن سيحتفظ بأرشيفها الإلكتروني حيّاً على شبكة الإنترنت؟ أما الورقي فرغم مخاطر تعرضه للتلف فهو على الأقل في حماية المكتبات الوطنية وباعة النوادر القديمة وهؤلاء الناس أحرص الناس عليها. ولكن هناك أخطار مثل خطر الحريق، وزحف الحشرات ومضار الرطوبة، وغير ذلك من أسباب إذا لم يكن هذا الأرشيف مُصاناً طبقاً للقواعد العلمية المتعارف عليها في هذا الشأن.
ومن خلال ملف (المجلة العربية) الذي حمل عنوان (أرشيف الصحف هدر الكنوز الثقافية) استطعنا الوقوف على أفكار وتجارب مهمة في هذا الشأن، وقد أوضح سليمان عوض الشقيرات أن الأرشيف الصحفي جسر يربط الماضي بالحاضر، ووصفه نبيل الحنيطي بأنه كنز المعرفة، بينما وصفه رائد جميل سليمان بأنه كنوز في غرفة الإنعاش. وبالتأكيد لكل أرشيف صحفي حكايات وأسرار كما أشار إلى ذلك زين عبدالهادي، بينما تساءل ممدوح مبروك عن إنقاذ التاريخ من خلال الأرشيف الصحفي، وغير ذلك من موضوعات مهمة في هذا الملف المهم.
الوجود الضروري
لقد طرحت المجلة العربية، هذه الأسئلة التي تحاكي المستقبل، لكي تتلقى الإجابات من أهل التخصص والمعرفة، لنعرف مدى فداحة المشكلة ومفاتيح حلها من خلال المشاركين، وأريد أن أصل من خلال ذلك وأدلِّل على أن المجلات الثقافية مثل (المجلة العربية) ليست ديكوراً أو زينة تتزين بها الجهات الثقافية، ولم توجد لمجرد ملء فراغ ثقافي ما، أو للتباهي بأن لدينا مجلات ثقافية، ولكنها مجلات لها وجودها الضروري ولها صنّاعها وعقولها المفكرة، وتؤدي دوراً مهما في الحياة بعامة، وعدم وجودها يعني أن هناك خللاً ما على تلك الأرض. ولا أريد للحماس أن يأخذني -باعتباري واحداً من أهل تلك المهنة- لأقارن شكل الحياة الثقافية قبل صدور مجلة ما، وشكلها بعد صدور تلك المجلة. ولكن أستطيع أن أقول إن مجلةً يمضي على وجودها -على الأرض- حوالي نصف قرن من الزمان، هي مجلة فاعلة ومؤثرة ولها قراؤها ومتابعوها ومحبوها.


* رئيس تحرير مجلة (العربي)

ذو صلة