يسعدني كثيراً أن أشيد بما تقوم به (المجلّة العربيّة) في معالجة التحوّلات الثقافيّة في عالمنا العربي خاصّة، وهي التي غالباً ما تلخّصها فكرة العادات أو التقاليد، إذ يمكن تصنيف شعب أو عرق وفقاً للخصائص الثقافية -اللغويّة أو الدينيّة أو غير ذلك- بالإضافة إلى الخصائص الجسديّة وحتى النفسيّة. وهذا كما يقرّ هؤلاء الباحثون مخطّط تصنيفي للاختلاف، مشابه لما استخدمته العديد من الحضارات في الماضي، من أجل تنظيم السكّان.
وهو يتّخذ في تقديرهم أشكالاً مختلفة، فمخطّطات التصنيف الأوروبيّة، مرتبطة بزخم الحداثة في القرن التاسع عشر، وهي من ثمّة تطوريّة. أمّا تصنيف الشعوب في الإمبراطوريّتين الصينيّة والعربيّة، فقد كان مكانيّاً في المقام الأوّل، ولعلّه لا يزال.
وفي أوروبا، كما هي الحال في عالم البحر الأبيض المتوسط القديم، يتمّ عادة تحويل الفضاء إلى وقت حيث (البعيد) يصبح (الخلف)، ممّا يفسّر الأنظمة الثقافيّة السائدة والمتحوّلة، ويلقي الضوء على مراكز الهيمنة حيث يتحوّل الناس بنسبة أو بأخرى، إلى (كائنات ثقافيّة) تستقلّ أنماط تنظيمها عن خصائصها البيولوجيّة، فتتميّز الثقافة عن الفطريّة وعن كلّ ما يتمّ تعلّمه، لكن من غير إغفال البنى النفسيّة، وعمل اللغة، ودور الخيال في صياغة الذات. على أنّ ما نخلص إليه من قراءاتنا في أبواب المجلّة العربيّة، أنّ العلاقات معقّدة بين التغيّرات في الواقع الاجتماعي، من ناحية وتلك القائمة في الخطاب الأكاديمي وفي شتّى الاستخدامات الاجتماعيّة لمفهوم الثقافة، من ناحية أخرى. وفي هذا ما يفسّر جوانب غير قليلة من سياسات الهويّة الثقافيّة والنظريّات (الثقافيّة)، وظاهرة ما بعد الحداثة، وتراجع الهيمنة الغربيّة، جنباً إلى جنب مع صعود خطاب ما بعد الاستعمار.... ولعلّ هذا ما يسوّغ رأي البعض في أنّ الثقافة نوع من (الشفرة) الشبكيّة أو المعرفيّة التي تنظّم الحياة الاجتماعيّة بأكملها، على ضرورة تنسيب هذه (المصادرة) حتى لا يعامل الأفراد على أنّهم استنساخ ثقافي، والنظر بعين العقل إلى كلّ ما يتعلّق بالثقل السياسي للصناعات الثقافيّة التي تكاد تختزل الثقافة في (صناعة ترفيهيّة)؟! يبدو الآن أن هناك رأي يقرّ بأنّ وسائل الإعلام والصناعات (التخيّليّة) تشكّل معاً أقوى ناقل للتمثّلات الثقافيّة والتمثّلات السياسيّة.
ومع ذلك يظلّ السؤال هو سؤال (التنوّع الثقافي)، أي تعايش الثقافات دون أيّ هيمنة من أيّ منها. وها هنا يحسن التشديد على أمرين اثنين:
أحدهما دور الدولة الثقافي، فربّما لا جدال فيه من حيث المبدأ، وهو موضوع توافق سياسي وأخلاقي حقيقي كما يفترضه الباحثون. لكن من غير أن يسوق ذلك إلى احتكار الدولة الحياة الثقافيّة، إذ ثمّة في عالم اليوم، على تفاوت ذلك من بلد إلى آخر، مشاركة السلطات المحلّيّة مثل البلديّات والمجتمع المدني والمؤسّسات الصناعيّة ودور النشر وغيرها، في الحياة الثقافيّة.
والآخر هو المتغيّرات في العالم المعاصر التي تعزّز (الأنموذج) الثقافي الوطني، وتشرعه على شتّى التنوّعات الثقافية، وتبذر فيه روح التبادل، بما استجدّ من مفاهيم مثل النسبيّة التي غيّرت مفهوم الزمن التاريخي، ذاك الذي أقرّته الميتافيزيقا، وقياسنا له حيث يكون الشهر أحياناً خيراً من عام كامل.
غير أنّ الواقع أكثر تعقيداً، وجيراننا في الضفّة الأخرى من المتوسّط، أو ما نسمّيه المركز هم أنفسهم مصنّفون مثلنا ثقافيّاً أو حتّى (عرقيّاً) على كراهة هذا اللفظ. لكن على ضرورة تنسيب هذا الوصف، بسبب من القدرة البشرية على التعلم والتطوّر، وتعهّد الذات، ومراجعة المسلّمات. وأقدّر أنّ (المجلّة العربيّة) وهي المشرعة في شتّى موادّها على هذا كلّه، تطرح هذا كلّه على قدر ما تغني ثقافتنا العربيّة حقّاً.
* شاعر ومترجم تونسي