تأتي هذه الورقة استجابة للدعوة الكريمة التي تلقاها الكاتب من المجلة العربية السعودية للمشاركة الكتابية في الاحتفاء بمرور نصف قرن على ظهور هذه الإصدارة الثقافية الرائدة، حيث أشرق نور العدد الأول منها في جمادى الآخرة رجب 1395هـ الموافق يونيو/ يوليو 1975م، متجاوباً مع ثقافة المملكة العربية السعودية التي (تتأثر بالحضارة العربية والإسلامية بشكل كبير، كما يتميز المجتمع في السعودية بمحافظته على الدين والعادات ومفهوم العائلة. وتتميز الثقافة السعودية بغنى عناصرها من تراث مادي وإنساني، وتقاليد وتطور حضاري عمراني، مع النمو المستمر في الفنون البصرية والموسيقية والأدائية، وتماشي ذلك جنباً إلى جنب مع حركات الإنتاج الفني: النشر والتأليف الأدبي والفكري.
وتتزايد في السعودية أعداد المكتبات العامة والمتاحف، والمناسبات الثقافية..). ومثلما حرصت المملكة على تطوير التراث والثقافة، فإنها حرصت على المحافظة عليهما، لذلك أُنْشِئَتْ عدة مؤسسات وهيئات تسخِّر جهودها في ذلك. ومن هذه المؤسسات الثقافية (المجلة العربية) التي تسهم هذه الورقة في الاحتفاء بها، وقد عَبَرَت خمسين عاماً من العطاء المتميز، بصدورها شهرياً بثوب قشيب وبمضمون متجدِّد. وقد هدفت إلى أن تكون مجلة لكل العرب كما كان شعارها منذ صدور عددها الأول، كما عمدت إلى تعزيز الثقافة العربية، ومواكبة الأعمال الأدبية. وفي هذه المناسبة السعيدة نحيي الرعيل الأول من الذين تعاقبوا على إدارتها، ورئاسة تحريرها، ونهنئ الأستاذ محمد السيف رئيس تحرير المجلة، وأسرة التحرير، والكُتّاب الذين رفدوها بإسهاماتهم المتميزة، وعطائهم المتجدِّد.
وعزَّز مجلس الوزراء السعودي المسيرة الثقافية في المملكة، حيث وافق في الرابع من فبراير عام 2020م، على إنشاء إحدى عشرة هيئة ثقافية جديدة تتولى مسؤولية إدارة القطاع الثقافي السعودي بمختلف تخصصاته واتجاهاته، كما تم الإعلان عن سبع عشرة مبادرة لتحقيق هذه التطلعات. ومن أبرز المبادرات المعلنة: تأسيس مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، ويأتي إنشاؤه متوِّجاً لجهود الأمة العربية في تاريخيها القديم والمعاصر في خدمة لغة الكتاب العزيز، وإنَّ القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء هو (قرار تاريخي ريادي ثقافي سعودي عالمي بامتياز، وإنشاؤه أمنية تحقَّقت، إبرازاً لمكانة المملكة، وتأكيداً لريادتها في خدمة اللغة والثقافة العربية)، وأتى قيامه إسهاماً، وتجاوباً مع رؤية السعودية 2030.
ولم يأت بزوغ شمس هذه المنارة العلمية الثقافية من فراغ، فقد مهَّدت أرضها إسهامات مشهودة للمملكة في خدمة اللغة العربية في مجالات عديدة لا يتسع هذا الحيز لذكرها، ولكن نشير إلى الجهود المبذولة منذ عقود في مجال التعليم للعربية، وبخاصة في كليات اللغة العربية، وأقسامها، ومعاهد تعليم العربية للناطقين بغيرها، والأندية الثقافية، وجهود الملحقيات الثقافية في الخارج، وما تقدِّمه المملكة من دعم مشكور للمنظمات الإقليمية والدولية.
وقد أفردت (المجلة العربية)، التي نحتفي بذكرى مرور نصف قرن على صدورها، عدداً خاصاً للتعريف بهذا المجمع الذي استطاع بعد انضمامه إلى اتحاد المجامع اللغوية العربية بالقاهرة، أن يكون إضافة حقيقية لدفع الجهود الرامية لخدمة اللغة العربية، ولا يتسع المجال للإشارة إلى إنجازاته، من خلال قطاعاته الأربعة. وعلى رأس إسهاماته مؤتمراتُهُ المتعاقبة، وجائزته السنوية، ومشاركة لجانه في إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية، الذي هو إصدار علمي رائد في تاريخ اللغة العربية، يؤرِّخ لكلماتها، موثقاً لها بالشواهد النثرية والشعرية من مختلف العلوم، منذ عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الحديث، وقد كان للجان هذا المجمع - الذي تكاملت جهوده مع المجامع اللغوية الأخرى- أثر في صدور هذا المعجم في مئة وسبعة وعشرين مجلداً، وذلك تحت رعاية الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، حاكم الشارقة، والرئيس الأعلى لمجمع اللغة العربية بها، الذي رفد هذا المعجم بالرعاية والتمويل والمتابعة. واستغرق العمل فيه سبع سنوات في مراحله المختلفة، وتوفَّر على إنجازه خمسمئة باحث وخبير ومراجع، وقد كان لمجمع اللغة العربية السوداني سهم أصيل فيه.
هذا وتوجد من هذا المعجم نسخة ورقية، وأخرى إلكترونية كاملة من مجلداته، تحت الرابط: Almojam.org. ويؤكِّد هذا الإنجاز تكامل الإصدار الورقي الذي تهتم به (المجلة العربية) المحتفى بها، مع الإصدار الإلكتروني الذي ييسِّر للباحثين، والمحبّين للغة العربية، أن يجدوا فيه ما يتوقون إليه - من مادة علمية غنية، ميسرة، ومخدومة وموثقة- ما يلبي طموحاتهم في الوقوف على تراث اللغة العربية، والارتباط بها، وتمسكاً بهُوِيَّة الأمتين العربية والإسلامية.
ونحن في مناسبة الاحتفاء بهذه المجلة العربية الثقافية في عيدها الخمسين، سعداءُ بتسطير هذه الكلمات، وفاءً لها، وإشادةً بجهودها، وتعضيداً لمسيرتها، في عكس ثقافة المملكة العربية السعودية التي جمعت بين الأصالة التراثية، والمعطيات الحديثة، المتجاوبة مع الإسهامات العلمية والثقافية المعاصرة، أخذاً وعطاءً، ونهنئ هذه المجلة الثقافية الرائدة، بعيدها الخمسيني، ونهنئ القائمين عليها، ونرجو لهم، ولها مزيداً من التوفيق والتألق.
*رئيس مجمع اللغة العربية السوداني