لقد شرفت بنشر (المجلة العربية) في العدد 539 بتاريخ أغسطس 2021 حواراً معي بمناسبة صدور روايتي (البحث عن كانديد) في مقال بعنوان: (أخشى أن يرحل عني شيطان الكتابة).
ثم تدور الأيام وتطلب مني مقالاً بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للمجلة العربية. وهنا أهنئ القائمين على مثل هذا الصرح الثقافي الضخم بهذه المناسبة السعيدة، كما أهنئ نفسي أيضاً، وكل المهتمين بالحقل الثقافي بوجه عام؛ ذلك لأن الثقافة تُعدُّ واحدة من أمتع الأنشطة المتاحة في عالمنا اليوم.
فلقد ملأت دنيانا أخبار الحروب والدمار والقتل والجرائم اللاإنسانية بصورة شاملة، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات الدولية الكبرى أو الدول، إلى حد أن صار الخبر السار عملة نادرة. أما عن الثقافة بمعناها الشامل فهي الواحة في مثل ذلك القحط الشعوري المحدق، وهي الجزيرة الهانئة الهادئة في ذاك المحيط الهائج المضطرم.
فما أجمل أن تشنف أذنيك بمقطوعة موسيقية تطير معها نفسك إلى سماوات بعيدة. أو ما أروع أن تخطفك صفحات كتاب فترتحل معها عبر القارات، فتبحر فوق المياه، أو تهيم عبر الأجواء والأزمنة نحو ماض سحيق أو تسافر إلى مستقبل لم يحن بعد أجله، أو تغوص معها في دواخل النفس البشرية، أو تتعرف من خلالها على أناس جدد لم تكن لتقابلهم أبداً مهما طال بك العمر وامتد. وما أسعدك حين تتأمل لوحة فنية تصحبك معها إلى عالم الجمال اللامحدود، حتى تنسى ما كنت عليه قبلا. وكم تكون سعادتك حين تجتمع الكتابة والموسيقى والصور في مشاهد فيلم سينمائيٍّ تأخذك إلى عوالم ساحرة خيالية تنتزعك من دنيانا التي أعطبها البشر في هذه الأيام بطموحهم وجشعهم وأنانيتهم.
كما أحب أن أنوه أن الشأن الثقافي العربي الذي أنا بصدده من الأهمية بمكان، لأسباب عديدة. أولاً، لأنه يختص بالقوة الناعمة لأي أمة تود أن يكون لها شأن بين الأمم في عالمنا هذا. وهذا ما حققته (المجلة العربية). ففي ظل العولمة التي صرنا إليها، لا شأن لبلد لا يعرف العالم عنه ثقافته وأفكاره، وماضيه ومستقبله، وواقعه وأمانيه. فينقشع عنا ظلام دامس غبنا فيه عن نهار الثقافة العالمية ما يقرب من ألف عام. نعم، مع الأسف، تلك هي الحقيقة الغائبة عن معظمنا، والجلية في ثقافة ورؤية العالم نحونا، فلا يزال الغالبية الأعظم من شعوب البشر تظننا نرتحل فوق ظهور الجمال، ونحيا في خيامنا المزركشة، ونرتدي الجلباب والعقال، ونشتري ونبيع الجواري والعبيد في الأسواق، تلك الصورة عينها التي تنقلها عن الشرق الأوسط كاميرات هوليوود، في الأفلام التاريخية، وأفلام المغامرات التي ينشد فيها البطل المغوار الكشف عن كنوز الشرق الغامضة.
في اليوبيل الذهبي للمجلة العربية.. أطرح بضع التساؤلات عن مستقبل الثقافة العربية:
أولاً، لماذا لا توجد دار نشر عربية واحدة في قائمة أكبر خمسين دار نشر دخلاً في العالم؟ أيمكن أن نتخيل أن لوكسمبورج؛ البلد ذو المرتبة 179 حجماً من مجموع 194 دولة مستقلة في العالم، والدولة ذات الـ537,039 نسمة، التي تحظى دار نشر بها (فرانس لوازير) على المرتبة الـ 44 في التصنيف الدولي بدخل سنوي 229 مليون دولار في عام 2016، في حين لا تدرج أية دار نشر عربية حكومية أو خاصة في تلك القائمة؟
وفي ظل وجود أثرياء في عالمنا العربي تنضح بهم قائمة فوربس Forbes العالمية في كل عام، لماذا غاب معظم هؤلاء من الساحة الثقافية العربية؟ نسمع عن مؤسسات تعد على أصابع اليد الواحدة عن مؤسسات خاصة يتبرع الأثرياء من خلالها لإحياء الشأن الثقافي العربي. أين بقية العائلات والأثرياء من العرب من تلك الساحة اليوم؟ ألا تبشر تلك الأرقام المنشورة بمجال للخدمة الاجتماعية والثقافية، بل وبمجال قابل للربح وزيادة للدخل، وبالتالي تكونوا قد اصطدتم عصفورين بحجر واحد؟
وهنا أقول بثقة إن الاهتمام الذي أولته مصر جمال عبدالناصر وبقية الدول العربية، في الخمسينات والستينات من القرن الفائت للأدب والثقافة، والفنون بصفة عامة، من مسرح وسينما وإذاعة وتليفزيون، هو ما أدى إلى تلك الطفرة التي أثمرت بعد عقدين بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب عام 1988، ليصبح الأديب العربي الأوحد الذي تبوأ هذا المقام الأدبي الرفيع إلى يومنا هذا. وأقول أيضاً إذا لم تعد الحكومات العربية وتسلك مثل تلك الحركة الثقافية الشاملة، فتقفز بشعوبنا للأمام، فلسوف نظل ننعى تدهور الذائقة العامة، ونشهد تدهور الثقافة وانحسار الأخلاق. فكما قال الكاتب الفرنسي صاحب نوبل فرانسوا مورياك: (قل لي ماذا تقرأ أقول لك من أنت)، كذلك أقول عن شعوبنا التي تركناها للكتابات الصفراء، والأفلام السوقية، والبرامج الحوارية الفجة، لا تلوموهم حين استحالوا إلى قطعان أغنام يساقون خلف كل راع، أينما يشاء أن يقودهم.
ألا تتفق معي عزيزي القارئ بشأن الأهمية القصوى لذلك الموضوع، ومكانته العظيمة في نشر الثقافة بين أفراد شعوبنا أولًا، ثم نقل أفكارنا وأحلامنا وثقافتنا تلك إلى العالم أجمع، فيشهد أننا شركاء في تلك الدنيا الرحبة، نسعى معهم نحو التقدم والازدهار، ولسنا مجرد آلات حرب وتعصب واقتتال؟
لم أكن أود أن أتطرق إلى ذاك الحديث في مناسبة سعيدة مثل هذه. لكنني أغار على الثقافة العربية أيما غيرة، وأرى دوماً أننا نستحق أفضل مما نحن عليه. ولذلك أثمِّن الدور الرائع الذي تقوم به المجلة العربية وهي تحتفي باليوبيل الذهبي اليوم. لكنني أبتغي المزيد من المهتمين بالشعوب العربية سواء على المستوى الحكومي، أو بالأخص على المستوى الفردي. فأنا هنا لا أذيع سراً حين أقول إن الدول الغربية لم تتبوأ مثل هذا الرقيَّ والعلوَّ في الشأن الثقافي بوجه عام إلا من خلال جهود الأفراد في شتى المجالات الثقافية، من شركات إنتاج سينمائية، وأستوديوهات للتصوير بإمكانياتها الهائلة، ودور نشر للكتب بأنواعها، وصالات معارض للفنون بألوانها المتعددة. كلها قامت بجهود فردية اضطلع بها بعض الأثرياء، فازدادوا بالاستثمار في الثقافة ثراء، وأعلوا شأن بلادهم وثقافاتها.
* روائي وطبيب مصري أمريكي