في الوقت الذي تتوقف فيه مجلات كثيرة في أوروبا وأمريكا والعالم العربي عن الصدور لأسباب كثيرة أولها هجرة القراء لها أو تراجع مقروئيتها، تواصل (المجلة العربية) مسيرتها بكثير من التميز والثقة التي تكتسبها أولاً من قرائها وثانياً من كتابها وثالثاً من موضوعاتها المميزة التي تختارها مادة لكل عدد ومن خلال ملفاتها المثيرة وأيضاً من هديتها المتمثلة في كتاب معاصر أو تراثي، عربي أو أجنبي، في الدراسة أو الإبداع، تقدمه مجاناً للقارئ مع كل عدد.
ليس من السهل أبداً أن تثبت مجلة ورقية في العالم العربي خصوصاً حيث تتراجع المقروئية بشكل مخيف ومحزن، وفي المقابل تطغى ثقافة الاستهلاك التي أصبحت تحاصر الإنسان من خلال شبكة عنكبوتية رقمية، شبكة لا تترك مواطناً إلا واصطادته، لكنني متأكد أن كل منبر نوعي على مقاس (المجلة العربية) يستطيع أن يثبت أمام تسونامي ثقافة الاستهلاك التي تضرب العالم، وهذا ما نلاحظه من خلال تجارب مجلات أوروبية تحترم قراءها كمجلة (الفلسفة) و(القراءة) و(نوفيل أوبسرفاتور) و(لوبوان) و(جون أفريك) وغيرها التي تستمر بكثير من التوازن محافظة على خط تحريرها الذي اختارته والذي يشكل أفق انتظار قطاع من القراء.
و(المجلة العربية) وهي تحتفل بذكراها الخمسين، نصف قرن من العمل الثقافي الدؤوب دون تقاعس، خمسون سنة وماتزال (المجلة العربية) في صحة ثقافية وإعلامية جيدة، والسبب في ذلك لأنها تحافظ على خطها التحريري الأدبي والثقافي والفكري الذي يميزها، دون أن تتحول إلى نسخة من المجلات الأخرى التي لا تزال تصدر في العالم العربي أو في العالم الأجنبي، وفي الوقت نفسه لا تسمح للآخرين أن يكونوا على شاكلتها لأن خطها ليس من اليسير تقليده أو النسج عليه.
تتميز (المجلة العربية) بالبساطة، والدفاع عن البساطة ليس عملية بسيطة، إنها فلسفة تقوم عليها المجلة، والتي اختارتها منهجاً في علاقتها مع قارئها، والبساطة فن وفلسفة في الوقت نفسه، وهو ما تمكنت المجلة العربية من تحقيقه بكثير من الوفاء لخطها التحريري وبكثير من الاجتهاد للحفاظ عليه ومواصلته.
تقدم (المجلة العربية) في كل عدد من أعدادها وعلى مدى خمسين سنة مادة في مجملها متنوعة لكنها مثيرة وجذابة، دون السقوط في الشعبوية الثقافية أو التهريج الإعلامي الثقافي العام.
على مدى خمسين عاماً، قامت المجلة العربية على ذكاء مميز، يتمثل هذا الذكاء في اختيار الموضوعات العميقة وتناولها بكثير من البساطة الصعبة، بساطة لا تخل بالموضوع ولا تخون المفاهيم الكبرى في الفلسفة والنقد الأدبي ونظرية الأدب والشعرية ونظريات السرد، وأضرب مثالاً على هذا الذكاء، ففي عدد نوفمبر 2024 قدمت المجلة لقرائها مقالاً مميزاً عن الأبناء الذين كتبوا عن آبائهم الذين شكلوا أصواتاً مركزية في الثقافة والإبداع، كحسين شوقي وهو يكتب عن أبيه أحمد شوقي، ومؤنس طه حسين وهو يخلد أباه طه حسين في كتاب، وجلال أمين وهو يكتب عن والده أحمد أمين، وريم خيري شلبي وهي تكتب عن أبيها خيري شلبي، ونهى حقي وهي تروي علاقتها بأبيها الروائي يحيى حقي، مثل هذه المقالات وغيرها تحقق للمجلة تميزها، فلا أعتقد أن أحداً لا يشده مثل هذا الموضوع، فأسماء كبيرة مثل طه حسين أو أحمد أمين أو يحيى حقي أو أحمد شوقي، قائمة في الذاكرة الجماعية فكيف الحديث عنها بعيداً عن الخطابات المكرورة من قبل النقاد والجامعيين؟ فالدخول إليها مرة أخرى وإحضاره في الواقع الثقافي من خلال مواقف وعيون أبنائهم هي مقاربة في غاية الذكاء.
إن فلسفة التنوع التي تقوم عليها المجلة العربية ليست (تجميعاً) لمواد أدبية وفكرية وإبداعية، بل هي منهج تقوم عليه من أجل التقريب بين القراء وتقديم الثقافة النخبوية بطريقة بسيطة وتقديم الثقافة البسيطة بكثير من التحليل الذي يفتح لنا مجالات لمعاينة المجتمع القارئ.
أعتقد أن حياة (المجلة العربية) بعد مسار خمسين عاماً لا تزال طويلة وأن القارئ العربي لا يزال ينتظر منها الكثير، وعلى الرغم من كل الصعوبات فعصرنا الثقافي الراهن يحتاج إلى كثير من التضحية من أجل إعادة المواطن العربي إلى القراءة ومصالحته مع الكتاب وهو ما تقوم به العربية وهي تقدم مع كل عدد كتاباً هدية.
إننا حين نحيي مجلة عريقة مثل (المجلة العربية) هذا لا يعني أبداً أننا ضد الثقافة الرقمية، فهذه الأخيرة قدر محتوم، ونحن فيه نشترك مع القارئ في أنحاء العالم، ولكن علينا أن نخلق توازناً ما بين القراءة الورقية الكلاسيكية العريقة والقراءة الرقمية الجديدة، وهذا ممكن، فاليابان وهي دولة تقوم حياة مواطنيها اليومية على التكنولوجيا المعقدة وعلى الروبوت إلا أنها لم تقطع أبداً تواصلها مع ثقافة الكتاب الكلاسيكي، فلا يزال هناك كتاب من أمثال هاروكي موراكامي وغيره ممن توزع كتبهم بملايين النسخ، وينتظرها القارئ بلهفة كلما أعلن عن موعد صدورها.
إننا أمام تراجع القراءة وقلة المكتبات لا نملك إلا أن نهنئ (المجلة العربية) وهي تحتفل بنصف قرن من العطاء النوعي المتواصل ونحيي مجموعة من أخواتها المجلات العربية الأخرى التي لا تزال تواصل معركتها من أجل تثبيت تقاليد القراءة النظيفة كمجلة الفيصل في السعودية ونزوى في عُمان.
*روائي ومفكر