مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

قرية رُجال.. من ظل الجبل إلى عين العالم

برغم النسيان الذي طال بلدة (رُجال) التراثية في محافظة رجال ألمع مع غيرها من الحواضر من قبل مدوني التراث الإسلامي، في مقابل التركيز على الحواضر الكبرى مثل مدن اليمن والحجاز؛ إلاّ أنّ تتبع هذا الغياب كان هاجس العديد من الباحثين في منطقة عسير، ولعلّ من أبرز هؤلاء الباحثين الذين أولوا هذه البلدة عناية خاصة هو الأديب والباحث (محمد حسن غريب) الذي ازدادت رغبته بمعرفة المزيد عن هذه البلدة كلما وقف على ذكرٍ مطبوع أو مخطوط في مصدر لرجال ألمع أو لبلدة رجال، وبما أنها تعدّ جزءاً صغيراً من محافظة كبيرة لم تكن تعرف فيما تصرّم من السنين إلا بألمع غير مسبوقة بـ(رجال) وبمثل هذا أشار الهمداني في القرن الرابع الهجري وعدّها من المجاورين لعسير، حيث قال: باطنها في التهمة ألمع!
وقد ألبسها الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله) حلة الشعر فذكر أنّ من شعرائها قديماً جثامة بن زهير بن ذيب وأخاه نافع، وأضاف لها التاريخ الإسلامي بعداً آخر فأشار إليها في تجهيز الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جيوش المسلمين لحرب القادسية، إذ شاركت قبائل ألمع في تلك المعركة، وتشير أغلب المصادر كالطبري وغيره إلى أن سعد بن أبي وقاص خرج من المدينة قاصداً العراق في أربعة آلاف ممن قدم عليه من اليمن والسراة وهم بارق وألمع وغامد، وقيل قدم عليه عرفجة بن هرمة البارقي ومعه 700 غازٍ من الأزديين وعدد من بارق وألمع، حيث أرسلوا إلى جبهة العراق، وقيل شارك فيها عدد من عشائر بارق وألمع وعلى مقدمتهم حميضة البارقي.
ويؤكد الباحث محمد غريب على أن مسمى رجال ألمع جاء متأخراً للغاية، ربما بعد القرن العاشر الهجري. وتفيد الإشارات التاريخية بأنّ رجال ألمع كانت منذ القدم فرعاً من فروع قبيلة عسير، وأنها شاركت مع إخوتها عسير السراة في جميع الغزوات التي خاضتها داخل المنطقة وخارجها منذ بداية القرن الثالث عشر الهجري وما قبله بكثير.
موقع رجال ألمع الجغرافي
تقع محافظة رجال ألمع في سفوح الجبال الغربية لعسير السراة، وليست أراضيها سهلية ولكنها جبلية تتخللها أودية خصبة التربة وجبالها مكسوة بالأشجار بمختلف أنواعها، يحدها من الجنوب درب بني شعبة ومن الشمال آل موسى وبني ثوعة ومن الشرق عسير السراة ومن الغرب قبائل المنجحة وبني هلال وبحر أبوسكينة.
بلدة رجال الأثرية
داخل هذه المحافظة تقع بلدة رُجال (بضم الراء) إلى الغرب من أبها ضمن انحدارات سلسلة جبال السراة، وتعد جبالها من الجبال السفحية المرتبطة أساساً بمرتفعات جبال عسير فيما يعرف بأغوار تهامة على مسافة تقدر بنحو 40 كم. وتسمى هذه السلسلة حسب اصطلاح السكان قديماً بـ(ساق الغراب) و(العارض) و(المنقاد) و(الأعراض)، وتعني ما ظهر وأشرف، وهذه الجبال تعد أعظم جبال العرب قاطبة، إذ أنها تُقْبل من قعرة اليمن جنوباً حتى أطراف بوادي الشام، بين هذه المنحدرات تجثم بلدة رُجَال العريقة بتاريخها وتراثها وتجارتها وثقافتها، فترى أحياءها (رَزْ، الهيامة، مناظر، النصب، الخليس، الكدحة، الشعبة، عسلة) قد توزعت على سفوح الجبال وجلاهم الأودية وانتظمت دكاكينها في الساحات والممرات وعلى جوانب الأودية وارتفعت قصورها لتعانق السحاب في إباء وشمم.
وكما يقول الباحث غريب فإن طبيعة أرضها ضيقة لكونها محاطة بجبال ذات ارتفاعات شاهقة ومنحدرات عميقة مع انعدام الأرض المستوية وقد وُصِف موقعها قديماً بأنه كان غابة ومياهاً جارية. وقد أشار إليها محمد عمر رفيع في كتابه (في ربوع عسير)، فذكر أنّ رُجال على وزن غُراب وأنه وجدها هكذا مضبوطة في رسالة نفح العود في سيرة الشريف حمود للحسن بن أحمد بن عبدالله البهكلي، وهو ما صححه المؤرخ غريب بقوله إن اسمه نفح العود في سيرة دولة الشريف حمود للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن أحمد البهكلي، وقد طبعته دارة الملك عبدالعزيز عام 1402 بدراسة وتحقيق وتعليق الشيخ محمد بن أحمد العقيلي.
حدود قرية رجال
تُحد ّقرية رُجال من الشرق بجبل المرواح ومن الغرب بجبل الشرقي ومجرى وادي البيح ومن الشمال بجبل فقوة ومن الجنوب بجبل العودة، وتنسب قرية رُجال إلى رجال بن عدي بن الصيق بن عمرو، وهو في الأصل من أسلاف آل سعدان الذين من عقبه آل جعيدة من حفدة الصيق بن عمرو بن عامر.
أساطير قرية رجال
من أطرف الأساطير المدونة عن تاريخ تأسيس هذه القرية التي أصبحت تراثية اليوم ونشأتها، أنها استوطنت بداية القرن الحادي عشر الهجري بإشارة من الخضر بن العباس، وهذا ما ينفيه الباحث غريب بقوله إنّ كل كلمة من كلمات هذه الأساطير تدل على نفسها بأنها كلمة منحولة تتناسق بحياء مع أخواتها في قصة موضوعه وليس بينها وبين الحقيقة والواقع أية صلة أو نسب، لكن شواهد الفعل الحضاري كما يقول من مبانٍ وطرق وحاميات ومدرجات زراعية وآبار ومقابر مكتظة بساكينها، وما كشفته السيول قديماً في بعض أوديتها من مساكن مطمورة تحت الأرض، وكذلك وجود الفحم والخباء الذي ظهر في أحد الآبار المحفورة عام 1375هـ في حيّ عسلة على عمق ثلاثين متراً؛ يعد من أقدم دلائل الاستيطان بالبلدة، وكذا ما عثر عليه من قبور شرق سور مجمع مدارس البنين على عمق خمسة أمتار، ولم يكن فيه أثر لمن قبروا هناك، إضافة إلى ما تناقلته الأجيال المتواترة عن ساكنيها القدامى؛ كل ذلك يعطينا أدلة قطعية على قدم الاستيطان والاستقرار البشري الذي كان يسود القرية قبل القرن العاشر الهجري وعبر مراحل نموها وازدهارها.
قصور القرية التراثية
تعد قصور قرية رُجال شاهداً حياً على حضارة معمارية متقدمة من خلال ما تمثله تلكم القصور متعددة الطوابق والتي يصل بعضها إلى 6 أدوار، وهذا لم يكن شائعاً في أنماط البناء القديم في منطقة عسير، ويبدو أن لضيق المكان وانحداره سبباً في زيادة الأدوار، حيث يشتمل كل دور منها على جميع المنافع محاكاة لنظام الشقق التي تستوعب الرجل وأولاده وأحفاده من بعده فتراها كناطحات السحاب تعانق شموخ الجبال وصلابتها مع مظهر أخاذ ومنظر جذاب.
وبقليل من النظرة الفاحصة والوقفة التأملية سنرى مدى ما وصل إليه سكانها من التبحّر في العمران والتوسع في وسائل البذخ والترف المادي الذي كانوا ينعمون به.
ومما ينقله الرواة عن سكان هذه البلدة فيما مضى أنهم إذا قرروا بناء قصورهم حشدوا للأمر عدّته واستعانوا بآلاته وحددوا مقالع حجارتهم ومصادر مائهم وطينهم وخشبهم ورتبوا معايش عمالهم ونومهم وشرابهم، ثم جاؤوا بعد ذلك بأصحاب الصنائع الحاذقين من بنائين ونجارين، وهذا ما يثبته التأمل في تلكم القصور وقوتها ودقة بنائها، وما يلحظ على البناء من إتقان ومهارة وخبرة واسعة في هذا المضمار، حيث تبدو للناظر حسنة الشكل بديعة المظهر مفرطة الطول تزينها أحجار المرو الأبيض في نسق واحد ورونق عجيب.
ويؤكد الباحث محمد غريب على أن أصحاب تلك القصور كانوا يعتمدون في بنائها على المقالع الحجرية المتوافرة في الجبال المحيطة بالبلدة والتي يطلقون على الواحد منها (منظّى)، وقد تم تشييدها على توظيف معطيات البيئة الطبيعية من طين وأحجار وأخشاب ومياه، كما حرصوا على أن تكون جدرانها عريضة تصل أحياناً إلى ما فوق المتر، ولهذا صمدت أمام التغيرات المناخية مئات السنين، وقد روعي في قصور البلدة متانة البناء ودقته وملاءمته لطبيعة المناخ السائد في المنطقة بكل ظروفه وخصائصه، مع مراعاة أن تحقق لسكانها أكبر قدر من الراحة والطمأنينة والهدوء التام وأن تلبي حاجة الأجيال القادمة التي ترغب في زيادة الأدوار.
وقد بلغ بهم الحرص في هذا الشأن أنهم كانوا يوثقون الوقت الذي يتم فيه بناء قصورهم والمبالغ التي أنفقوها على بنيانها كقصري مسمار والرياض، كما تجاوزوا ذلك إلى توثيق الزمن الذي قاموا فيه بترميم مساكنهم وما صرفوه عليها من أموال كقصر آلحوّاط وآل جابر.
ومن أقدم قصور البلدة تلك التي تساقطت في حي الكدحة وأعيد بناؤها اليوم والتي تزيد أدوارها على خمسة طوابق، منها قصورآل ابن صيام وآل أبوعائض وآل مسفّر وآل يحيى، ومن أبعدها إيغالاً في التاريخ ما يعرف اليوم بقلعة أو جامة آل عامر.
ومن قصور البلدة ذات القدم قصر السّباع وقصر معجب وقصر حاكم والدرعية وقصر ألمع وقصر رازح وقصر مشرف الذي سمي نسبة لموقعه الذي يشرف على سوق البلدة وقصورها وأحيائها الغربية والجنوبية. وكذلك قصر معشي والرياض.
وتستعد قرية (رُجال) التراثية هذه الأيام للانضمام لقائمة القرى التراثية في اليونسكو بعد أن مرت بمراحل عديدة من التطوير، كان في مقدمتها أعمال التطوير في المسرح المفتوح بمساحة 615 متراً مربعاً، ويتسع لحوالي 1000 شخص، إلى جانب المساحات المجاورة وهي عبارة عن أماكن للتسوق تعرض فيها المنتجات التي تشتهر بها بلدة رجال على وجه الخصوص ومحافظة رجال ألمع بصفة عامة، كما تمت زيادة الرقعة الخضراء بحوالي 7 آلاف متر مربع، وأقيمت 15 مظلة وجلسات عائلية على مداخل البلدة، ورصف وإنارة الطريق المؤدي من الشارع العام إلى البلدة مروراً بحديقة الجسر إلى جانب فندق القرية الذي أوشك على الانتهاء والذي بني على شكل تراثي يتسق ومباني القرية القديمة.

ذو صلة