مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

من الآمال إلى الأعمال

الحضارات في تاريخ البشرية كلها تمر بمراحل النهوض والركود، فما من حضارة بشرية ثابتة على حالة واحدة من ازدهار أو انحدار، لأن طبيعة التجدد والتبدد، والتطور والتدهور في الكون والأشياء والأحداث تستلزم ذلك.

الحضارة اليونانية مثلاً بلغت مبلغاً عظيماً في العلوم والمعارف والعمران والفكر، ثم مر عليها حين من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم نهض ورثتها من الغربيين عموماً نهضتهم المعروفة الممتدة إلى اليوم، وقد يرجعون إلى أسوأ مما كان عليه أسلافهم في القرون الوسطى، والعلم عند الله. وليست أمة العرب استثناء من تلك السنن الإلهية في التقدم والتراجع، فقد عاشت في بداوتها وقسوة حياتها ردحاً من الزمن ثم نهضت نهضتها المعروفة مع انبلاج نور الإسلام، فتحولت سريعاً من رعاية الأنعام إلى قيادة الأمم، ومرت بفترات شد وجذب حتى وصلت إلى حالتها الراهنة التي لا تضر عدواً ولا تسر صديقاً، لكن لا شيء يمنع من عودتها إلى سدة القيادة البشرية مرة أخرى، لأن الحضارات تمرض وتتراجع وتنكمش لكنها لا تموت أبداً.
الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية والتربوية عموماً ليست بمعزل عن تلك السنن الكونية، فهي جزء بل الجزء الأهم في حضارة أي أمة ونهضة أي بلد وتقدم أي شعب، إذ لا شيء من ذلك يمكن بناؤه على غير العلم والمعرفة والبحث والفكر.
تصنيف الجامعات أصبح من القضايا التي تشغل بال كل من له صلة بالتعليم العالي والبحث العلمي في العالم كله، لأن الجهات القائمة على هذه التصنيفات تحتفي بنتائجها أيما احتفاء خصوصاً من الناحية الإعلامية التي لا يخفى أثرها وتأثيرها على إنسان هذا العصر عموماً، وليست الجامعات المصنّفة نفسها بأقل عناية واهتماماً واحتفاء بتلك النتائج من تلك الجهات المهيمنة على هذه التصنيفات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، فهل الأمر في الواقع يستحق كل هذا الاهتمام والاعتداد بنتائجه؟
الإجابة بداهة تبدو نعم، إذا تأكدنا أن التصنيف نفسه يعتمد على معايير علمية ومهنية وواقعية بحتة، وتتسم بالمصداقية الكافية. ومع أن كل ذلك يظل محل نظر كبير تظل الجامعات، خصوصاً العربية منها، تبالغ في أهمية تلك النتائج، دون أن تدقق في معايير التصنيف وهويات القائمين عليه، ومدى مصداقيتهم في تطبيق تلك المعايير بأمانة ودقة وحياد، ولا يلتفتون إلى حقيقة خروج أكثر الجامعات العربية من التصنيفات بسبب المعايير التي وضعت أصلاً على واقع الجامعات في البلدان التي ينتمي إليه المصنفون، والاختلاف الكبير في القيم والأهداف والرسالة بين العالم العربي والإسلامي وبين غيره.
ففي مجال البحث العلمي الذي هو أساس التصنيف غالباً لا تلتفت الجهات المصنِّفة إلى أي نتاج أدبي أو نظري في الآداب العربية والدراسات الشرعية بل لا يلتفت عند التصنيف في الواقع إلى أي منجز باللغة العربية، وهذا أكثر ما تنتجه الجامعات العربية، فكيف تتقدم في تصنيفات لا تلتفت إلى قيمها وأخلاقها المهنية ورسالتها وأهدافها المشتقة من سياسات التعليم في بلدانها؟
في مجال الجوائز لا تعتد معظم التصنيفات العالمية إلا بالحاصلين على جائزة نوبل مع وجود جوائز عربية إسلامية لا تقل عن نوبل تاريخاً وشأناً وقيمة ومعايير واضحة وحيادية تامة، مثل جائزة الملك فيصل العالمية، فهل هذا من الإنصاف والعلم والحقيقة في شيء؟
وأيضاً في مجال خدمة المجتمع لا يمكن اتفاق القيم بين المجتمعات كافة، فكيف يمكن لمن لا يعرف ثقافة المجتمع وعاداته وتاريخه وحضارته، أو لا يرى ذلك شيئاً مذكوراً أن يكون منصفاً في الحكم على المؤسسات العلمية في تلك المجتمعات، ووضعها في مكانها الصحيح من التصنيف العالمي بحيادية وعدالة؟
هنالك هدفان يراد لهما الترسيخ في الوعي العالمي وحتى العربي، ويبدو أن بعض القائمين على أمر الجامعات العربية يسهم في ذلك من حيث لا يدري أو لا يريد، الأول أن الجامعات العربية متخلفة جداً من جميع الجوانب، وهذا سبب وجود أكثرها خارج التصنيفات العالمية، واحتلال قليل منها مواقع متأخرة نسبياً بين جامعات العالم، والهدف الآخر أن العالم العربي كله متخلف تخلفاً مطلقاً. وهما هدفان لا يمكن القبول بهما بهذا الإطلاق، ومن ثم لا داعي لتلك الهالة التي
تُضْفَى دائماً على نتائج تلك التصنيفات العالمية، سلباً أو إيجاباً، هذا مع العلم بأن التصنيف من حيث المبدأ أصبح من الأعراف العالمية التي لا يمكن إهمالها كلياً أو تجاهلها.
الحل من وجهة نظري أن تسعى الجامعات العربية ووزارات التعليم العالي ومؤسسات البحث العلمي ومؤسسات العمل العربي والإسلامي المشترك متعاونة ومنفردة إلى وضع معايير دقيقة لتصنيف عربي إسلامي عالمي للجامعات، من واقع أهداف التعليم العالي والبحث العلمي في بلدانها، وهي نابعة من حضارتها وتاريخها وقيمها المشتركة ودينها، على أن يكون هذا التصنيف عالمياً مثل التصنيفات التي تسود العالم اليوم، تصنف جميع الجامعات في العالم دون استثناء بسبب المجال البحثي أو لغة الدراسة والنشر أو غير ذلك، على نحو ما هو حاصل في الجوائز العربية الإسلامية التي يفوز بها العلماء من كل بلد وجنس ودين، لحياديتها ودقة معاييرها وصرامة تطبيقها.
يمكن أن تنشأ مؤسسة وطنية خاصة بالتصنيف أو يوكل الأمر في كل بلد إلى المؤسسة الوطنية للقياس والتقويم، إذا وجدت، وهي موجودة وتؤدي عملها في القياس والتقويم على الوجه المرضي في بعض البلاد العربية والإسلامية، ويمكن إنشاؤها أو تفعيلها في بقية البلاد العربية والإسلامية، ومنها تنشأ المؤسسات الإقليمية مثل الإسيسكو والإلسكو وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي، وهذا الاتجاه ذهب إليه من قبل الهنود والصينيون وغيرهم، ومسافة ألف ميل تبدأ بخطوة. والله وحده الموفق.

ذو صلة