مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الحدث

وصلت رسالة على هاتفه، بها دعوة تحتفي بإنتاجه الأدبي، عرس للقصائد التي لامست شغاف محبيه، فتسارعوا للحضور بشوق، في ذلك المساء، اختلطت الأصوات المعجبة، أحدهم قال عنه إنه شاعرٌ مرهف الحس، وإن لقصائده رونقٌ خاص، يميّزه عن فرسان القوافي. ووقف من زاوية أخرى أحد المتحدثين ليثني على جانبه الإعلامي والتواصلي، وحرصه على البقاء قريباً من أمسيات الشعر ولقاءات الثقافة. استمع إلى كل تعليق باهتمام مبتسم، حتى سأله أحد الحضور -بلهجة غمرت بالتردد-: قبل مدّة فجعت بفقد أحد أبنائك.. وكان المصاب مؤلماً على محبيك معك، فهلا تحدثت عن فقدك بأبيات من شعرك؟ صمت المكان لثوان متطاولة، قاطعتها نحنحة واعتدال في جلسة، استعاد كل رصانة يملكها، وحاول أن يستجمع كلماته التي نثرها تذكره للحدث، وكأن التعبير بات يرحم اختلاف ملامحه لينثال متحدثاً بينما تتماسك نبرته بصعوبة، في تثاقل أربك شعور من سأله لدرجة الندم، لكنه ألهب مشاعر الحضور ليهللوا مصفقين، وهذا ما سمح لكل ما استجمعه من ثباته أن يتنفس الصعداء، لكن هذا لم يكن إذعاناً بالموافقة على حديثه والإعجاب بما يقول فحسب، ففي داخله.. تدثر الحزن بهالة من الكتمان، أو كان كذلك، حتى سمحت له أسماع الحضور بالظهور، لينساق التعبير من كل الحواس، فعينه تفصح الدمع، ولسانه يتلو قصيدة الفقد لأول مرة، في سرديته، يعرف من يسمعه كيف يمكن أن يعبر النقص عن الكمال، كيف يتصور لضعف نبرة الصوت أن تكون بالغة التأثير، كيف يمكن لتعثر الكلمات أن توضح استقامة المعنى، وبخطى واهنة، وصل إلى الشطر الأخير، لتحتضن مدامعه تحيّات الحضور، ويسارعوا لإنهاء فقرة الأسئلة راغبين في احتضانه والسلام عليه، واسته تلك المصافحات والكلمات، وباركت مأتمه ابتسامات العزاء، في تلك الليلة كان لكل خاطر عاتبٍ أن يدرك السبب، أن يتوقف عن اللوم الدفين لدرجة الخجل، الذي يستبدل بالود البالغ، كأنما هو شوق العودة من سفر بعيد، نقلته خطاه بعيداً عن المكان، اختفى من دائرة الضوء التي أحاطته، عائداً إلى منزله، في طريق طال على سيره، لمح بينما يسير مكاناً يذكره بمن فقد، وفي عين الذكرى، كل الأشياء تقود إليها، تنهد بألم بينما يضع يده على قلبه، قارب على الوصول، بل وصل، اتجه إلى الباب بينما يشعر باستماتة الأنفاس، وباحثاً عن طوق النجاة، سارع لطلب كوب من الماء من أهله، كأن برودته ستطفئ لهيب الوجع، لم يعد يشعر، لدرجة أن يسدل ستار عينيه بينما يستلقي على أريكة مدت إليه قربها.
شعر كأنما يسبح في ملكوت سفلي، فيه يغوص دون حراك، تتنامى الأصوات وتخفت، تحاول أضواء أن تكسر العتمة، وتنعش جسده، لكنه لم يكترث، حتى شعوره بالوقت، شعر بلا اكتراثية أن يلاحظه، مالت عليه أغصان الرحيل، واستند إلى جذعها مذعناً بالتسليم، خفقات قلبه، لم تعد تود الركض مجدداً، ولا السير حتى، حتى وإن بدا لكل خفقة ما تبديه، ولكل نظرة ما تحكيه، كان وجوده في المكان مختلفاً له فردانيته، حديثه عن كل ما يجول في خاطره، ينساب فنّاً خالص الأصالة، كأن لم يتحدث قبله أحد، ولعينه الخجلى قدرة على رؤية ما لا يُرى، ووصفه حتى يشعر الأكفاء أنّ لديهم ما يرونه، ولأذنه مخيلة تستشعر اللون في اللحن، والأسرار التي تحاول إخفاءها التراكيب والجمل، في عالم لا يكف عن الحديث بينما تستمع، ولا يتوقف عن الطلب طالما لا تمتنع، كان حريّاً به أن يرتحل عنه إلى شيء مختلف، ينفرج كأبواب الجنة ويوصد بعده أعتابه.

ذو صلة