مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

مساحة مربع

في نهاية فصل الصيف لعام 1997 وفي الزيارة الأسبوعية لمنزل جدتي لأمي؛ كان الأمهات قد أعددن قوائم مختلفة من الأطعمة، حيث اختارت كل واحدة من الأطباق ما تبدع في إعداده، ناهيك عن جلب مفرقعات، ومزهريات ملونة، وبالونات، ومناديل الطاولة، والحضور المبكر. كانت القوائم تشتمل على: أوراق العنب المحشي بالأرز والخضار، رز مبخر بطعم الشواء مع قطع اللحم، شوربة العدس، سلطة الملفوف والجزر، فطائر السبانخ والسماق، وعصائر بألوان مختلفة بدت مبهجة على مائدة الأطعمة مثل قوس قزح. بينما نحن الأطفال كنا نلعب الغميضة، أو نركض في الفناء الخارجي من منزل الجدة. كانت جدتي متعبة من الليلة السابقة، حيث كانت أمي قد أخذت إجازة لمدة أسبوع حتى تستعيد جدتي عافيتها ومن ثم تعود للعمل كما في أوقاتها السابقة، تعد القهوة، وتمسح الغبار عن نباتاتها التي تزرعها في فناء البيت، بجانب عتبات الأبواب، وعلى الشرفات، وفوق حواف النوافذ.
كانت أمي قد اتفقت مع قريباتها وصديقات العمل في المركز التجاري للمطبوعات، حيث يقمن بفرز الرسائل والمستندات وطباعة كل الأوراق حسب المطلوب، فمرة قاموا بطباعة أوراق الامتحانات المدرسية بنسخ تصل إلى ألف ورقة، ومرة عن مستندات الإيجارات المنزلية، وكتب مدرسية، ومذكرات مدارس عالمية، كما أن أمي مع بداية كل سنة ميلادية تجلب تقويماً جديداً يحمل رائحة الورقة الحادة بينما يبدو مرتباً وفق مراسم الاحتفالات السنوية والإجازات الطويلة على مدار العام. لم يكن بمقدور صديقات أمي حضور التجمع الصيفي في بيت جدتي إلا أن يستأذنّ من العمل، أو يأخذن نصف اليوم وإكمال البقية بعد الغد. كان فصل الصيف قد وافق على قرب الإجازة المطولة، ويذاع من تلفاز منزلنا بعد الإعلانات التجارية بأن الشتاء قد يكون حلوله أبعد هذه السنة عما توقعه راصدو الأحوال الجوية، فيبدو في المساء أبرد عن فترة الظهيرة.
كنت للتو قد أكملت واجباتي المدرسية، وتأكدت من واجب العلوم بعد أن تجولنا مع المعلمة في رحلة لمتحف العلوم التقنية والفنون البصرية شمال المدينة، وفي نهاية الرحلة أخبرتنا بأن الواجب المنزلي سيكون مقالاً وبعض النقاط المهمة التي أفادتنا في هذه الرحلة، بينما أمي قد جهزت مكونات الطعام، وما أن أضع رأسي نائمة ستبدأ في طهي أوراق العنب وملئها بالأرز والخضار، كما أني في معظم الأحيان أسمع ضحكتها من على مقربة من غرفتي وهي تعد الحلويات وتتحدث مع صديقتها ريم في المركز التجاري، وأنا أحاول جاهدة أن أغمض عيني بدلاً من تفكيري الذي يحملني إلى حيث الأصدقاء على وجبة الإفطار في بيت الجدة أو في قبلتها التي تحمل رشحاً طفيفاً من شفتيها فتلتصق على جبيني وأنسى أن أقوم بمسحها كعادتي! تذكرت وأنا مستلقية على السرير بأن قلمي الرصاص يحتاج لتحليم رأسه من خلال براية جديدة، كنت قلقة بشأن أمي ما إذا ستغضب من وجودي في هذه الساعة بحثاً عن أدواتي المدرسية التي سرعان ما كنت أفتقدها في المدرسة. أعود من المدرسة أحياناً وقد سقط مني مصروف الإفطار، وحينما كنت أكتب أنا وصديقتي امتثال قد نسيت معها قلمي الرصاص ذا الورود المنقوشة على أطرافه، عل أن أمي كانت تخزن الكثير من الأشياء في مخزن المنزل.
خصصت مربعاً مساحته صغيرة جداً ومرتب برفوف طويلة وشاهقة تصل إلى سقفه، أما نافذته فكانت مربعة بحيث تطرد روائح المعطرات المنزلية، ومنظفات الغسيل. كانت أمي تحتفظ بكل الأشياء الزائدة حتى أن معظم الأشياء التي لم تعد تستخدمها تبقى محفوظة هناك لفترة طويلة. أما أبي فقد احتفظ بصناديق كبيرة مليئة بثيابه العسكرية القديمة والتي تغيرت بعدما اجتاحت بلادي بعض الحروب. كانت ملونة برتبة عمله، حيث كل لون كان يحمل دلالة معينة، فمثلاً اللون الأسود يدل على زي المراسم الملكية، والأزرق خاص بمركبات الطائرات الجوية، بينما البيج المرقط بتطريز يشبه الخرائط فهذا زي موحد عندما تبدأ الحروب في مكان ما يرتديه أبي حتى يكون دلالة على أن هناك شيئاً لايزال يستدعي الحفاظ على العمل بصورة سرية وآمنة.
كما أن أمي تحتفظ ببطانيات كبيرة الحجم حتى عند حلول فصل الشتاء نلتحفها بحثاً عن الدفء. تخزن كل الاحتياجات الفائضة من الأرز، المعكرونة، وحتى المعلبات الجاهزة. ففي تلك اللحظة التي استيقظت فيها مقابل أن أعثر على مبراة لقلمي الرصاص، اتجهت صوب المطبخ بعدما اعتلت البيت رائحة كزبرة نفاذة، ودونما حديث نظرت إلي مستغربة من نهوضي في هذا الوقت المتأخر، حيث أنها تعرف بأني في مثل هذا الوقت أكون قد دخلت في نوم عميق، ولكنها في الأصل تعرف عن قلقي الذي يعتريني حتى من أجل أسئلتي اللامتناهية، أو حينما أتجه لغرفة نومها، فكانت تخيط الصوف بقرب النافذة وهي تسمع أغنية طلال مداح الشهيرة، وأخبرها بأني قد نسيت معطف المطر على كرسي الانتظار أسفل فناء المدرسة. أخبرتها فوراً أثناء وجودي في المطبخ بأن قلمي يحتاج لتحليم رأسه بمبراة جديدة، لأن تلك التي كانت معي قد سقطت في المدرسة دون أن أنتبه.
راحت أمي متجهة للمخزن ذي المساحة الصغيرة، حيث بدأ ممتلئاً ولم يكن كالسابق. زادت معطرات التنظيف، ومساحيق الغسيل، مسامير النوافذ، أبواب مخلعة، أقمشة الأرائك التي تركتها بعد غسلها بمعطر اللافندر، وقد كانت المرة الأخيرة التي رأيت هذه القطع في عيد الفطر. كما رأيت الكثير من الصناديق المليئة بثياب قديمة ستذهب حتماً لتبرعات الجمعية، ونسخ من مستندات مطبوعة بأعداد هائلة، تساءلت كيف ستجد أمي مبراة قلم رصاص صغير في كل هذا الحشد من اللاضروريات. زحفت خطواتها إلى أدراج سفلية من على يسار الرفوف، بينما أنا ظللت واقفة على الباب لصغر المساحة حيث تكفي شخصاً واحداً. أنظر برقبة مرفوعة إلى الأعلى، كما تبدو الأشياء من فوق أكثر وضوحاً من تلك التي في الأسفل. أخرجت صندوقاً صغيراً مقلماً بالأحمر، كانت جدتي قد أهدتني فيه قطع شوكولاتة بيضاء مغطاة بالفستق الحلبي بعد مشاركتي المعتادة في الافتتاحية الدورية لمجلس أولياء الأمور. كان داخل الصندوق الكثير من الأقلام، والمساحات، والبرايات بعدد فائض. ناولتني اثنتين واحدة لي والثانية ستكون بديلة في حال قد أضعت الأولى. كعادة أمي تجعل من كل المواقف خطتين بديلة بصورة تلقائية دون الحاجة لتفكير.
في صباح اليوم التالي وفي وقت مبكر، تعمدت أمي أن تأخذ من المخزن كيس قش كبيراً، غسلت منه فتات الطعام، ومسحت عنه الغبار، فقد كان مركوناً فوق الرف بجانب النافذة. أدخلت فيه علبة عصير بنكهة التوت، ولفائف ورق العنب، كعك مكوب بالفراولة، وقدح القهوة. أما أنا فأخذت دفاتر ملونة وبطائق لامعة كتبتها في صف الفراغ والقراءة بمناسبة خروج الجدة بسلامة تامة حتى أعطيها للأصدقاء الذين ألتقي معهم نهاية كل أسبوع في فناء بيت الجدة وبقرب قبلتها التي لاتزال تحمل الرشح الطفيف.

ذو صلة