مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الطائف في السيرة الذاتية السعودية

تعد السيرة الذاتية انعكاساً مباشراً أو غير مباشر لصلة الإنسان بالمكان، فعلاقته الترابطية من حيث العيش والإقامة، وما ينتج عنها من مشاعر؛ تدل على تلك الصلة. وعليه يمكن القول بأن (هناك أماكن مرفوضة وأماكن مرغوب فيها، فكما أن البيئة تلفظ الإنسان أو تحتويه، فإن الإنسان -طبقاً لحاجته- ينتعش في بعض الأماكن ويذبل في بعضها).
ومن الأماكن التي نشأ فيها الأدباء السعوديون، وظهرت بشكل ملفت في سيرهم الذاتية؛ مدينة الورود والكادي (الطائف). ولقد تنوعت الحالات الشعورية، وتعددت، بحسب التجربة التي خاضها الكتاب تجاه هذه المدينة، بين من أثرت فيه المدينة نفسها، بصفتها عالماً مغايراً لما اعتاد عليه، ومثلت له صدمة حضارية بشكل ما، أو من عايش المدينة بتفاصيلها الدقيقة، وتغلغلت به وأعادت تشكيله، مثل الشاعرة فوزية أبو خالد التي اتقدت عاطفتها بالمتضادات في سنواتها التي قيدتها في سيرتها الذاتية، مع مدينة الطائف، مكاناً وتأثيراً، وأكثر ما يتضح ذلك حين اتكأت على تجربتها مع (الكية)، وهي نوع من أنواع الطب الشعبي، وحبها المحفور بدمها لمدينة الطائف، تقول بشاعريتها المعتادة: (من يومها صار الطائف بالنسبة لي مزيجاً من العناصر النشطة غير المسالمة، مثل تركيبة بركان تتضاد وتتلاحم، تنقسم وتلتقي حممه وجراحه.
ففي مزيج الطائف تجتمع الأضداد: الأبيض والأسود، اللون الرماني واللون الرمادي، طعم التوت المثلج (دندرما الطفولة)، ومذاق الجمر المتقد على لحمي الغض (علاج الكي على يد شيخ جبر الكسور). وبنفس تلك الحدة من الأحاسيس المتضاربة بين منتهى الحب ومنتهى الخيانة التي شعرت بها من تجربة الكي التي لوعت طفولتي على أرض الطائف؛ أحب كل حرف من حروف اسم تلك المدينة المدونة في دمي بمطرها وبردها وبساتينها وحيويتها وخرارها وشهارها وشفاها وهداها. ظلت رائحة زهور النزهات الخلوية ورائحة الرعب المباغت تندلع من مسامي كلما استحممت طوال طفولتي).
وتوثيقاً لهذه المشاعر المتضادة؛ كررت فوزية أبو خالد في موضع آخر من سيرتها (كمين الأمكنة) شعور التضاد وتغلب مشاعر الحب للطائف وانتصارها، لتصوغها بفلسفة شعرية، موضحةً كيف تعددت المدينة داخلها، وكيف تلقت هذا التعدد بحيرة والتذاذ: (لكن في سري كان هناك طائف وطائف وطائف. تربكني وتحيرني مشاعري المتضادة فيه ومعه. ويشغلني الطائف عن الطائف. وكأن الطائف ملايين الطيوف التي تشكل مسرحاً غامضاً، خلاباً، مقشعراً، وآسراً، لا ندري كيف نحدد مشاعرنا تجاهه، ولكننا لا نملك أن نحيد أرواحنا التي تغافلنا وتهفو إليه).
وكثيراً ما تعتمد الشاعرة فوزية إلى وصف المكان بكل تجلياته وصفاً دقيقاً، تتبع فيه التفاصيل النفسية المؤثرة والعادات الاجتماعية النقية، والكشف عن الحياة الليلية الماتعة وأنماط فنونها؛ لكي تضع القارئ في قلب الأحداث، وتأسر مشاعره بلغتها الشاعرية وأسلوبها الرقيق، ليعيش معها الشعور نفسه تجاه الطائف، أو يقاربه، فتقول عن هذه المدينة: (كانت الطائف في طفولتي المدرسية وماتزال مكسوة بريش الحرية، مجللة بالبساتين، مكللة بكل أنواع الفتنة الربانية. كانت تلك الطبيعة الخلابة مطهمة بأسيل محيا النساء الحنطي وعبير الفاغية، وأريج الجوري، كانت الطائف مطعمة بهديل الحمام وشجن الطرب والأصوات العذبة والعزف المنفرد على العود، والفرعي الحجازي، ورقصة الحويسي، وبالتجمعات الأهلية الأريحية بين الأقارب والصحب والجيران حول حجر (السلاة) المقلق والرز العربي بسلطة العسل، ورز (السليق مغرقاً بالزبدة محاطاً بأطباق الطرشي، سكر قوالب، وشاهي كيف، والملعقة تجلب الونة، سهرات نسوية مع الأبناء والبنات من سن السادسة إلى سن الستات/ الجدات ما فوق عمر الستين، توسوس الحلي والأسرار في تلك السهرات النسائية على سينما البكرات في أمسيات ما يسمى بالليالي البدرية التي يضيء سماءها وسواد بساتينها قمر أربعة عشر. تفغر أفواه الصغار منا ويطير النعاس عن العيون).
بذلك نقول إن الطائف حفزت فوزية أبو خالد على الكتابة الإبداعية، وقد أثرت في المتخيل والحقيقي لديها، وجعلت سيرتها الذاتية مضفرة بالمكان أكثر من الزمان، ولديها الدافع والمبرر المستمر لتسمية سيرتها بكمين الأمكنة، فبعد خوض الأحداث المؤلمة في طفولتها والمزدحمة في حياتها مثل المعاناة التي عاشتها مع (الكيات)، وعجز والدتها حين تصاب طفلتها بحريق أو مرض قاهر لا تستطيع فعل شيء له؛ تجد فوزية نفسها تخون ذاكرة العناد المحملة بكل هذه الآلام وتمنح الوعي والعقلانية مساحة كي تشحن طاقتها الإبداعية: (فيما بعد.. بعيد.. بعيد.. بعد أن صرت أخون العناد العفوي مع محاولة الوعي والعقلنة المتعمدة؛ لم يعد الطائف مصيفاً، صار الطائف طاقة تشحنني بالمتخيل والحقيقي معاً من فواكه ذاكرة الطفولة وأشواكها).
ومن الكتاب الذين تحدثوا عن الطائف الكاتب عبدالرحمن السدحان، وهو من المعاصرين الذين عاشوا تجربة الحديث عن الذات وكتبها، وهو من أولئك الذين سكنتهم الأمكنة إذ سكنوها، فنقل في سيرته الذاتية علاقته الأولى بالطائف، وذلك من خلال رحلة البحث عن والده وهو طفل صغير، وكيف أدهشته هذه المدينة وعرضته لصدمة حضارية لم يكن يتوقعها، وهي شبيهة بصدمته في مدينة نيويورك بعد عدة سنوات، فيقول عن الطائف: (أحدث لي دخول الطائف لأول مرة (صدمة حضارية) لم أتوقعها أبداً، مثل صدمة وصولي إلى نيويورك بعد ذلك بسنوات طويلة، لأسباب مختلفة. كانت عيناي تجولان عبر نافذة السيارة مثل (رادار) يلف حول نفسه، فكل شيء بدا لي في تلك اللحظة لافتاً للبصر ومثيراً، وأنا لا أكاد أفهم من بعض ما أرى شيئاً... وفجأة أبصرت (مخلوقاً) يعتلي دراجة نارية ويعبر من أمام سيارتنا كلمح البصر... فقلت باسماً لـ(الخال) بصوت مسموع وبلهجة عسيرية: انق الينّي ياخال، أي: انظر إلى الجنّي).
الطائف مصدر سعادة عند السدحان، وتجربة للأشياء الجديدة الغائبة في حياته بسبب رحلة البحث عن والده التي كان يقوم بها وهو طفل صغير لم يبلغ التاسعة من عمره، ففي الطائف انتعشت روحه واستعاد جسده عافيته، وزاول الترف الترفيهي والبهجة، فالطائف مصدر للحياة بأجوائها العائلية المترابطة وبتجاربها المعرفية الجديدة وطبيعتها الرقيقة، يقول: (استقر بي المقام (ضيفاً) على أسرة الشيخ صالح العباد بمدينة الطائف... وما هي إلا أيام، حتى تبدل حالي بحال، فاختفى (هندامي) البالي الذي جئت به من أبها، وارتديت بدلاً منه ملابس ناصعة النظافة والبياض، وارتوى جسدي النحيل بأطايب الطعام والشراب، وإلى جانب هذا وذاك، نعمت لأول مرة في حياتي (بترف) النزهة عصراً مع نجلَي الشيخ العباد... حيث كان الخال علي يصطحبنا في سيارة الأسرة إلى أحد المنتزهات البرية القريبة من مدينة الطائف، وهناك رأيت (كرة القدم) لأول مرة، وشاركت رفاق النزهة متعة اللعب بها، يومئذ شعرت أننى قد استعدت جزءاً من (طفولتي) التائهة في سراديب الزمن بالعودة إلى (فطرة) سني الذي لم يتجاوز التاسعة).
أما الكاتب عبدالحميد مرداد، وهو رحالة سعودي فقد عبر عن حبه لمدينة الطائف من خلال وصفه لهذه المدينة وقراها ووديانها، فكشف عن الطبيعة الجغرافية، وكيف أنها تمد أهل الطائف بالخيرات المتعددة، فتعطيهم المعادن كالنحاس والحديد والقصدير، وقد تجود أرضهم بمحصولين في السنة، وذكر أنواعاً وأسماء كثيرة للأشجار والورود، كما أعطى أمثلة للأعشاب والعقاقير الخارجة من هذه الأرض، وزاد على دلالات العطاء بأن الفواكه والخضروات والعسل والسمن في مدينة الطائف تزيد عن حاجة الناس في بعض الأحيان. يقول: (أرض الطائف غنية بمعادنها، كمثل النحاس والحديد والقصدير، كما أنها جيدة التربة وخصبة ومريعة ومباركة، إذ قد تجود أحياناً بمحصولين في السنة... والأخشاب بأنواعها متوافرة في هضابه ومفازه، ومنها: الأثل والطلح... وأعشابه كثيرة وجيدة لغذاء الماشية، وزهوره العطرة كثيرة، ومنها: الورد والياسمين والنرجس. وتوجد العقاقير الطبية في جباله ومرتفعاته كمثل الشيح والضرم... أما البقول والخضروات والفواكه ففيها الشيء الكثير الذي يزيد عن الحاجة أحياناً، وكذلك السمن والعسل والماشية والحبوب، ووسائل الحرث بالسواني).
وتظهر أهمية الطائف في نصوص أحمد عبدالغفور عطار، حين ذكر مقابلة ومجلس الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وهي إشارة من الكاتب لأهمية هذه المدينة عند الحكومة السعودية، وبخاصة الأمير فيصل، فذكر التفاصيل الدقيقة للمقابلة، ورصد أثاث غرفة الأمير ومكتبه، حيث قال في سيرته: (غادرنا بالسيارة الصغيرة الموية إلى الطائف... حتى وصلنا الحوية عشاء، وتناولنا عشاءنا، ثم واصلنا المسير... وسمح للشيخ سعيد بالدخول وأنا في صحبته، فإذا الأمير جالس على (ليانة) وما كاد -أطال الله بقاءه- يراني حتى تفضل بالقيام واستقبلنا بحفاوة وبشاشة وابتسام... وكانت غرفة الاستقبال على الطراز الحجازي، مقاعد من القطن كالمراتب عرضها 70 سم مبسوطة على ثلاثة جوانب من الغرفة... وكان الجلوس على الأرض المفروش عليها بساط عجمي، أما المكتب ففيه كراسي، كما أن بالنيابة غرفة استقبال بها كراسي وثيرة وفخمة، وتتسع لأكثر من ستين كرسياً).
ويتبين من النصوص السابقة أثر مدينة الطائف على الأدباء والكتاب واهتمامهم بذكر التجارب والحالات الشعورية التي مروا بها مع هذه المدينة، وحرصهم على نقل الوقائع والتفاصيل في سيرهم الذاتية. فقدم البعض في نصوصه الحب والانتماء والشاعرية، والآخر يفصح عن علاقته الأولى بالطائف وتجاربه المعرفية الجديدة بها، بينما يقدم أحدهم الوعي بالمنطقة الجغرافية وعطاءاتها الطبيعية، وأخيراً أهمية مدينة الطائف للحكومة السعودية.

ذو صلة