مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

فن فتحي حسن.. فائض بصري مقوماته الدال والمدلول في اللوحة الفنية التشكيلية

يعيدنا الفنان النوبي (فتحي حسن) (Fathy Hassan) الذي يعيش في إيطاليا منذ عام 1984، وهو المولود في القاهرة عام 1957؛ إلى جذور الطبيعة البكر للإنسان. إذ تتخذ الكلمة المكتوبة أساساً فنياً عبر مسارها الغامض في أعماله، وكأنها أداة اتصال بينه وبين اللوحة والعالم، محاولاً اختصار أفكاره الفنية عبر أسس الكلمة. لو حاولنا فكفكتها وتجريدها لتتناسب مع رسوماته داخل اللوحة نفسها، متجاوزاً حواجز الفن التشكيلي عبر أسلوبه البسيط والمعقد في آن، ليؤكد على قدرة الفنان وإمكانية التواصل بين الغرب والشرق عبر اللغة البصرية لشكل الكلمة ورمزية المعاني الأخرى، معتمداً على الكثير من الرمزية المتأصلة في ثقافته الخاصة التي نشأ عليها في طفولته المتمسك بها كي لا ينسى معنى وجوده الحقيقي، وكأنّه يحاول حماية لغته عبر إخضاعها لمقاييس الرموز الأخرى التي يخصصها لكل حدث تاريخي مرّ في حياته أو حتى عبر التاريخ المهم لمنطقته النوبية، وربما في مصر أو أي دولة أخرى شعر أنه ينتمي لها من خلال الخطوط التي يرسمها ويتبع أثرها دون تفسيرات واضحة. إذ يسترسل نفسياً بما يبهج بصره، وهو يرسم بإصرار بالقلم أو بالأدوات الأخرى، وعبر عدة أساليب يمزجها بالقدرة على التذوق الذاتي. فهل من معنى نوبي وعربي محدد أراد له البقاء في لوحاته؟ أم يحاول تفسير الحروف التي تتشكل منها الكلمات ومقاربتها مع الإنسان، بمختلف أجناسه وانتماءاته والأرض التي خرج منها؟ وهل الأصوات البصرية تمثل لغة الفنان التشكيلي الممتثل إنسانياً للّون الأحمر الأفريقي المساوي للأسود بالنسبة له بصرياً؟ وهل رمزيته تعيدنا إلى الكهوف الأولى وتأثيرات الطبيعة على الإنسان حين نقشها على جدران مسكنه الأول؟
يزيد الفنان (فتحي حسن) من قيمة التواصل بين الغرب والشرق بالكلمة ومعاني رموزها التشكيلية المرافقة لرمزية الحيوانات وصفاتها المنسوبة لأمكنة خرجت منها بشكل بدهي، كائنات كان لها الدور الأكبر في أحداث كبيرة رافقها الكثير من التواريخ المرتبطة بالأرقام. ربما في هذا بعض من التعقيد الرمزي، إلا إنه ما بين الصراع الشرس والعنيد، وبين الكلمة التي تمنح الإنسان الإحساس بقيمة التواصل الثابت جسراً فنياً تشكيلياً؛ لا يخلو من تنظيم لأفكاره، ليوحي بالسمات المعينة التي تقودنا رموزها إلى أحداث تاريخية تأثرت بها الكثير من البلدان، كما تأثر بها الإنسان الذي شتّتت ذهنه الصراعات، ونبذته حتى خارج موطنه كصراعات التيوس في لوحات حافلة بلمسات زخرفية لكل منها أسسها في الفن. فهل أراد أن يمنح المتلقي إلقاء نظرة على العالم الخاص به من خلال لوحاته؟ أم أنه أراد تفكيك الرمزيات الحقيقية التي لا يصطنعها الإنسان، وإنما تخرج عبارات تؤلفها الأحرف في كلمة عربية يجب التمسك بها؟ وهل طبيعة الإنسان الأفريقي تشبه الطبيعة وحقائقها المجبولة برمزيات مختلفة تحاكي فطرة الإنسان الأولى؟
تغرق لوحات الفنان (فتحي حسن) بالدلالات المُكثفة التي تقودنا إلى عناوين بصرية كثيرة، وأحداث تاريخية متعددة حدثت عبر التاريخ في الشرق والغرب دون استثناء. إلا أن خاصية (فتحي حسن) هي التمسك بجذوره الأساسية لموطن هو وجوده الأول الذي انطلق منه إلى اللوحة العالمية بفائض بصري مقوماته الدال والمدلول في اللوحة الفنية التشكيلية. فالرمزية اللغوية التي اتبعها بين الكلمة والأشكال والرموز بمعانيها المُستمدة من العالم كافة هي التعبير الأدق لمعنى الرمزية التشكيلية في الفن. فكل شكل في لوحاته يقودنا إلى تأليف آخر قد يصل لما هو صوتي إيقاعي، وآخر هو شيفرة بصرية تقودنا إلى حقائق مختلفة توصل إليها الإنسان أو أصابت الإنسان أو عانى منها، وغير ذلك من الرموز التي يمكن تفكيكها بصرياً، تبعاً للثقافات المختلفة عبر التواصل الفني الذي يأخذ في رسوماته عدة أشكال، دون أن ينفي الإرث الإنساني من بداية رسوماته على جدران الكهوف وصولاً إلى عصر الذكاء الاصطناعي، وما تعنيه الكلمة بقدرتها على التواصل اللغوي السريع. إلا أنه يثبت من خلال رسوماته أن البصر موصول بشكل مباشر بالفكر الذي يحلل الرموز بشكل أعمق من الكلمة التي يعتبرها ملموسة واضحة، في حين أنه يحتفظ بغموضها الذي يتصل مع الرمز عن طريق الإشارات المعقدة على نطاق واسع. فهل تخضع لوحات الفنان المصري النوبي لمنطق عقلاني بصري خاص به؟ أم أنه يعزز هويته النوبية من خلال هذا الأسلوب الذي يعيدنا لجذور بدايات الرسم واكتشاف الكلمة المنطوقة والمكتوبة والمسموعة، إذ هي شكل أولاً، ثم صوت وإيقاع؟
وفي حوار خاص معه للمجلة العربية سألته قائلة: تحاكي المستقبل من خلال الرموز والتمسك بشيفرة خاصة فيك؛ هل تنافس ذاتك أم الآخرين بذلك؟ حيث أجاب قائلاً: إن الرموز تعطي المساحة الفكرية، لفتح أبواب مغلقة صعبة الفتح. إن الرمز والكلمة هما علم وعلوم، وليس الرمز فراغاً، إنه مساهمة حقيقية عالمية لهدم الطموحات الزائفة، وهو هدم الفكر المرتبط في حلقات تؤدي إلى عدم تطور الأخلاق بشكل صحيح. إذ لا بد من إعادة بناء المفاهيم المتكررة المليئة بالكذب والصدأ. كما إني أنافس بالرموز أعداء حقيقيين في عالم الفن، خصوصاً لمن لديهم إدارة صحيحة جعلتهم متحضرين.
وعن ما بين الكلمة والرموز من أصوات يدركها الحس بتحفيز من الألوان، وبخاصة الأحمر والأسود؛ تحدث قائلاً: الأسود والأحمر في أول وهلة للناظر ليس بينهما حنان ما، بل شدّة، ولكن هي مقصودة؛ لأن هناك دائماً أمل لهدم المحسوبيات في كل المجالات. وكوني مفكراً تشكيلياً يكتب أو يرسم بالألوان؛ أود أن أتخطى حجم الفكر المدار من خلال مؤسسات ضعيفة. كما أنه ليس هناك نقد فني بالمعنى السليم أو مجلة تشكيلية حقيقية قوية، فالفساد الفني يعم من خلال الفوتوكوبي أو تلك المستوحاة من الأعمال الغربية. هناك خط أحمر، والخط الأسود يغلق الأبواب الزائفة.
وعن جمع لغة الكهوف الأولى مع ما هو معاصر في الفن؛ يقول: لغة الكهوف أصلية، بدأت بصدق، والفن المعاصر ليس به إدارة، وليس هناك فكر شفاف والكل يتبع. كما أن رجل الكهف كان حراً. الآن ليس هناك فن عربي حر بكل معنى الكلمة بشكل كامل، فمنه ما هو مستوحى، ومنه ما هو غير ذلك، وبتتابع عبر أجيال طويلة إلى الآن.
وحول كونه نوبياً مصرياً شديد التمسك بالمبادئ الأولى في الرسم؛ أجاب عن سؤال حول وضع الكلمة والرمز في صراع تشكيلي أم أنها الكلمة وما تعنيه من معنى مخفي كالرموز تماماً بقوله: إن المبادئ النوبية تعلمتها من جدتي وأمي، ومن خلال الكلمة، كما أن النساء النوبيات جميلات، يلبسن ألواناً جميلة، وبهنّ نظافة ملحوظة، وصوت هادئ، يحكين حكايات تحت القمر، وطفولة رائعة. وليس هناك صراع، بل تنافس على تأكيد الموروث الثقافي عبر القرون إلى الآن.
ودعا للعودة للجذور والتمسك بقيمة الأرض التي ننتمي لها عبر البقاع المختلفة بسلام، مشيراً إلى أن المشكلة الآن لو تحدثنا عن الإبداع بعمق وأردنا الإحصاء ننصدم فعلياً لأنه لا يوجد إبداع بالمعنى الحقيقي للكلمة، ولكن يوجد رسامون وليسوا فنانين، كما في عالم السينما المملوء بالممثلين، ولكنهم أراجوزات ومعظمهم ليسوا بفنانين مع بعض الاستثناءات. كما أن كلمة فنان هنا في العالم الغربي لها معنى قوي، تكمن أهميته بالفكر الذي يحمله في لوحاته الفنية التي تشبه رسالة عالمية ذات أهداف إنسانية عالية في المجتمعات كافة، وأحياناً الناس تنظر إليه على أنه من كوكب آخر. التخلف والجهل من المصائب الكبرى في الحياة، ومن غير العودة للجذور ليس هناك أمل في التقدم. العالم فيه تنافس رهيب في كل المجالات، إذ لا بد من الاستثمار العلمي في الفنان المتقدم، والخبير المتقدم، والتحكم في أسس الاختيار الصحيح، كما أنه لا توجد رؤية علمية، والجهل والغرور جامح، والبعض لا يميل إلى التجديد ويرفض الحداثة. ويضيف: إن الرمز سر، وهو خاص بي، وفي داخله تاريخ إنسان ما، وليس مهماً من يكون، لأن هناك جدار عازل يمنع فك الرمز.
وحول الأذن التي في لوحة من لوحاته جعلها بشكل كلمة (حسن)، هل أراد القول إن الإنسان الحسن من كل لون وشكل؟ يجيب: السماع الحسن هو الكلمة الحسنة، وفي أعمالي أحب أن أشير إلى الحب والحنان. وليس لدي أي طموح لكي أرتقي في عالمنا العربي، بل على الساحة العالمية الغربية، فهناك تنافس حر، ونقد بناء متقدم علمياً وفنياً وفكرياً. أظن أني لست من المرغوب بهم في عالمنا العربي والنوبي أيضاً، لا أعرف السبب! يقولون لي لماذا تأتي إلينا، ابقَ في الخارج، رغم أني أتمسك بالكلمة العربية في لوحاتي.
وعن طموحاته يقول: طموحاتي شبابية جداً، وأود مساعدة الشباب وحثهم على فهم ماهية الهوية. أعلّم الأجانب في المدارس عن أعمالي، وأن القيمة المبدعة والمبتكرة في الفن تذهب لمن يستحقها، كما أنهم يطلبون مني المساعدة في فهم تاريخنا، عقول متفتحة.
ويضيف: طموحاتي العربية للأسف بلا آمال. لقد مرت أعوام وأعوام ولم أجد من يحترم عملي أو الفكر الذي أسعى لنشره في الفن. ولكن معظم المغتربين في كل المجالات يستمتعون بأعمالي ويقبلون على اقتنائها. لم أعد أفكر في العودة إلى الوطن لكنني أنتمي له؛ لأني جئت صغيراً جداً إلى الغرب، ودرست هنا، وقد تعودت على الحرية والأمان، ولا أعرف منظومة الفكر العربي حالياً. فهو بعيد جداً، وبطيء. وطموحاتي الغربية أصبحت قريبة لي، هناك إدارة وبحث علمي، والفن سهل الحركة عندما يصلون إلى فهم فنك، وأعتقد أنني محظوظ للغاية.
ويختتم حديثه قائلاً: هل يعقل أن يعيش الإنسان من غير فن، إنه الشيء الوحيد الذي يخفف من فزع الأحلام الرهيبة والعوائق التي تحفر داخل الإنسان والروح. تطيب به النفوس، ويجعلها رحيمة، ويدفعها نحو محبه الخير للناس أجمع.

ذو صلة