مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

رحله بعيون القلب إلى سيوة

(اللغز) هو الوصف الذي اختاره الدكتور حاتم الطويل للواحة في مقدمة كتابه (سيوة حدوتة عمران) الصادر عن الجهاز القومي للتنسيق الحضاري بوزارة الثقافة المصرية، حيث يقول عنها: (هي لغز التاريخ.. لغز الحضارات.. لغز اللغة، كل ما فيها يمثل لغزاً كبيراً تراكمت من خلاله أحداث وحقائق أتت بهذه المنظومة الرائعة للبيئة العمرانية، في تماهيها مع البيئة الطبيعية بكل خصائصها، إضافة إلى الإنسان صانع تلك الحضارة العظيمة).
الاكتشاف لها كان هدفي في رحلتي الطويلة في دروب الصحراء الغربية، حيث وجدتها واحة قابعة ومسكونة بعبقرية الموقع والمكان والتاريخ، تقع جنوب غرب محافظة مطروح على مسافة 820 كيلومتراً من القاهرة بالقرب من الحدود الليبية، وهي الأبعد بين الواحات الأخرى، البحرية والفرافرة والداخلة والخارجة، يحدها إلى الشمال الإقليم الممتد من مطروح حتى هضبة مرمريكا جنوب السلوم، ومن الشرق منخفض القطارة، ومن الغرب واحة جغبوب الليبية، والتي يقع جزء صغير جداً منها داخل الخط الحدودي المصري، كما يحد سيوة إلى الجنوب والجنوب الغربي بحر الرمال الأعظم، وتضم مجموعة فريدة من المعالم الأثرية والجيولوجية وينابيع الجمال من أشجار النخيل المتعانقة حول بحيرات الماء العذبة والمالحة وكثباناً رملية عملاقة وأطلال المدن الطينية المتبقية التي تشهد على شهرة سيوة وعلو شأنها في العصور الإغريقية الرومانية، حتى إن البعض يؤمن بوجود قبر الإسكندر الأكبر فيها، كما تتمتع الواحة بخصوصية ثقافية وتاريخية فريدة، تكمن في كونها البوابة الشرقية لأرض الأمازيغ أو (تمزغا)، والتي تمتد من واحة سيوة شرقاً حتى جبال الأطلس الأعلى ووادي السوس بالمغرب الأقصى غرباً، وجنوباً حتى فيافي تشاد ومالي والنيجر وموريتانيا، مروراً بكل من ليبيا وتونس والجزائر، ولذا تعدّ سيوة مركزاً للثقافة الأمازيغية في مصر، حيث يتحدث سكانها اللغة الأمازيغية بلهجة (تاسيويت) أو السيوية، وهي إحدى اللغات المنتمية لعائلة اللغات الأفرو-آسيوية.
أول المزارات التي قمت بزيارتها في قلب واحة سيوة، وتحديداً في منطقة حديقة مجلس المدينة متحف البيت السيوي، ويتكون من مبنى ذي طابقين، بني باستخدام مادة الكرشيف، والتي هي عبارة عن حجر ملحي متكلس يترك ليجف تحت أشعة الشمس، ثم يخلط بالطين مع نسبة قليلة من الرمال، ولربط أحجار الكرشيف بعضها ببعض تستخدم مونة من الطين بنية اللون كثيرة الملح، بينما يتم تدعيم الجدران من الداخل وفي الأركان باستخدام جذوع أشجار الزيتون، أما الأسقف فهي عبارة عن عرائش من جريد النخيل. والمتحف يضم مجموعة من السلال المستخدمة في نقل وتخزين الغلال والفواكه والخضروات، والسجاجيد اليدوية والأواني الفخارية، والعوامات المستخدمة لتعليم الأطفال السباحة، والمصنوعة من قرع العسل المجوف بالإضافة إلى المكاييل الزراعية من كيلة وصاع، وثياب الزراعة والأفراح، وأدوات الفلاحة والخبيز والطهي، ومن الجميل رؤية عناوين الغرف بالمبنى مكتوبة باللغة الأمازيغية السيوية، ولكن بحروف عربية، فغرفة الشتاء تكتب: (اتغرفت نيشتي)، وغرفة الخبيز أو الفرن تكتب: (اسطاح نطابنت).
أما أشهر مدنها مدينة شالي العامرة بالتاريخ والتراث والتي استمتعت بزيارتها ولاتزال تَبوح بأسرارها فهي نِتاج الحضارة المصرية بشقيها القديمة والإسلامية بامتلاكها شواهد تعكس لنا عراقة المكان وأهمية الزمان باعتبارهما ، فهي جزء من عالم الخيال، ومكان متفرد بطبيعته ونمطه العمراني والمعماري المتميز، حيث إنها هضبة مرتفعة تعلوها قمتان، واحدة في أقصى الغرب والثانية في الشرق وبنيت عليها العديد من الدور، وتتميز المدينة بالممرات والدروب شديدة الضيق حتى لا يتمكن الغزاة من اقتحامها. واعتمادها على خامات تتناسب مع بيئة المكان وهي (الكرشيف، الطينة، الدبش الغشيم، الملح، ورق شجر الزيتون، جذوع النخيل والزيتون، ليف النخيل)، وشالي باللهجة السيوية تعني (المدينة الحصن أو المدينة المحصنة) ويرجع تاريخ بنائها إلى القرن السادس-السابع الهجري/ الثاني عشر- الثالث عشر الميلادي، ومنذ ذلك التاريخ سكنها أهل سيوة (السيويون) وأحاطوها بسور وأطلقوا عليها ذاك الاسم، حيث ارتبطت شالي بسيوة ذلك المكان الذي شهد تتويج الإسكندر الأكبر المقدوني ملكاً وإعلانه ابناً للإله آمون، بعد أنّ توجه للواحة بعد ترسيمه حاكماً بمنفى في زمن الأسرتين الـ(18- 19) ثم تفرغه لبناء الإسكندرية، ومن ثم قرر الذهاب إلى سيوة يتلمس البركة من الإله آمون، فتم تتويجه بمعرفة كهنة آمون في القاعة التي أعدت لذلك وما زالت آثارها قائمة ولقب بابن آمون ولبس تاج آمون وهو على شكل رأس كبش.
من أشهر جبال واحة سيوة ذات الطابع العجيب والمعماري والجغرافي جبل الدكرور أو (التكرور) يقع على بعد نحو خمسة كيلو مترات جنوب الواحة، ويتميز الجبل بجوه الصحى، وتتوفر فيه المياه العذبة، هي ليست جبال بالمعنى التعريفي، وإنما هي في الحقيقة تلال صخرية مرتفعة قليلاً عنما حولها من سائر مناطق الواحة، وقد ارتبط ببعض الممارسات الشعبية وهي الممارسات الطبية، حيث تستخدم رمال هذه المنطقة كوسيلة للعلاج من آلام الروماتيزم. وتفيد الدراسات العلمية أن هذه الرمال تحوي إشعاعات نظيفة تساعد على العلاج وهو ما يؤهلها لأن تصبح مكاناً عالمياً للاستشفاء. كما أن موقعه الجغرافي ومستويات ارتفاعه قد أضافت له طابعاً اعتقادياً روحياً على نحو ما نجده فى احتفالية السياحة ذات الطبيعة الصوفية والعلاجية أيضاً.
عند تأمل عناصر التراث الشعبي بواحة سيوة المصرية سنجد أنها حافلة بالعديد من الممارسات الشعبية التي تؤكد ارتباطها بالمكان من ناحية والهوية الثقافية للمنطقة من ناحية أخرى. من أهم ما يميزها هو النظام الغذائي المعتمد على الزيتون والبلح، ليس فقط على مشتقاتهما، ولكن أيضاً على مزجها معاً، حيث تشتهر بين أهالي الواحة أكلة لا توجد في المطاعم عادة، وهي عصيدة الزيتون بالبلح، أو ما يعرف باللغة السيوية باسم (تاجلا أنتيني)، وهي وجبة إفطار مثالية تفقد المرء الشعور بالجوع والعطش لفترات طويلة في أيام الصيف الحارة، كما تشعر الإنسان بالدفء وتمده بالطاقة في أيام الشتاء الباردة، كما تشتهر الواحة بالتخصص الفريد جداً في أنواع المربى، والتي تنتج باستخدام الزيتون والكركديه والباذنجان والخيار، كما تشتهر بالخبز المجردج الذي يعد من مظاهر احتفال عيد الصلح، كما تشتهر سيوة بعصير يستخرج من قلب النخيل، هو اللاقبي أو اللاقمي، يشتهر بكونه هدية الزوج لزوجته قبل الزفاف، لأن استخراجه يستلزم التضحية بنخلة كاملة، كنوع من تعظيم قيمة الهدية للزوجة، ويحل عصير اللاقبي محل قمر الدين لدى أهل الواحة على مائدة إفطار رمضان، وبمناسبة طقوس الزواج وما يتعلق بها من مأكولات، تدخل عشبة طبيعية خضراء تنمو في سيوة وتعرف باسم (المخمخ) أو (الرجلة) في طواجن اللحم التي يتناولها العريس يوم الزفاف، كما أن الأجيال الأقدم شاع بينهم استخدام تلك العشبة في علاج أمراض الجهاز الهضمي. تشتهر سيوة بطبق (أشنجوط) وهو رقاق بداخله بطة أو دجاجة، كما أن هذا الرقاق السيوي يسمى (إرقاق) بالسيوية، أما أشهر ما يميز المطبخ السيوي هو طبق (بومردم)، حيث يوقد الحطب داخل تنور، وهو حفرة في الأرض محاطة بصاج حديد، ويمكن شراء التنور جاهزاً من أسواق سيوة، بعد أن تحمى جدران التنور يرفع الحطب ويوضع الفحم المشتعل في قاعه، ومن ثم يتم إدخال المشويات داخل التنور، ويغلق على الحفرة بعد ذلك بغطاء معدني، ويردم من فوقه بالرمال باستخدام الكوريك، ثم يوقد الحطب فوق الردم أعلى الغطاء، وبعد ساعتين يرفع الحطب والغطاء وتخرج وجبة بومردم جاهزة للأكل، قد تكون دجاجاً أو ضأناً أو لحماً بقرياً، ولكن الأصل فيها هو خروف كامل، كما أن الطواجن من أهم ما يميز المطبخ السيوي، وخاصة طواجن الدجاج بالزيتون والمكرونة المبكبكة، ومن العادات والتقاليد العريقة في سيوة هو شاي المساء على ركية النيران، مع إضافة حشيشة الليمون أو اللويزة، والتي تضفي طعماً مميزاً للشاي، أما الحلويات السيوية فأشهرها المسقي، والتي تعدّ من الحلويات المرتبطة بالعيد، بالإضافة إلى (تانقوطعت) وهي حلوى من العجين الممزوج بالسمن والسكر يقدم في حفلات المولود الجديد، والبسيس وهي نوع من الحلوى التي تعد في حفلات الزفاف، كذلك واللطرية التي تؤكل في ليلة القدر.

ذو صلة