مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

مجالس العزاء

 وفي مجالس العزاء يتجدد الفقد، نتشارك معاً اللحظات الحزينة نبكي، لأن الموت يستدعي البكاء نبكي لأن كل المجتمعين في داخلهم غرفة غارقة بدموع الفقد، الفقد الذي لم يترك بيتاً إلا وطرقه وأخذ منه روحاً، لم يترك شجرة دون قطف ثمارها، ما يعزينا أننا متساوون في ذلك، لا مجال للتفكير في ظلم الحياة، ولا قدرة لنا في دفعه بعيداً عنا وعن أحبابنا لكنه أتى ولم يطرق الباب، دخل بهدوئه وضجيجه، مر من أمامنا وتجاوزنا، وقف في منتصف الغرفة وعيناه هناك يقترب رويداً رويداً، تصرخ صديقتي البندري: ماتت أمي، ماتت حبيبتي وسعادتي وجنتي ونور البيت وضحكته، ماتت طفلتي الكبيرة. في الغرفة الأخرى يرقد الأب ويشعر أن هناك أمراً يحدث لا يعلم ما هو، مشتت التفكير بين واقع ونسيان، يصرخ: أين (أمي) خذوني للمستشفى، بشوف (هيا). هكذا ينادي زوجته. كانا يرقدان معاً على الأسرة البيضاء رغم اختلاف العلة، السنوات التي جمعتهما جعلت منهما روحاً واحدة ووجعاً يئن في قلبهما الضعيف، الرحمة الزوجية تظلهما رغم مشاغبة الحياة وأمواجها المتضاربة، التوافق والتزامن في مرضهما ودخولهما معاً للمستشفى وخروجهما رغم عدم يقظتهما الكاملة للحظة الحالية لكن قلبهما يقظ وأكثر شعوراً وفهماً ووعياً بما يدور حولهما. ما جمعهما ليس غراماً ولا هياماً، رابط المحبة المتين وصل لا ينقطع، السنوات الكثيرة في سواد شعرها وبياضه، العشرة الطويلة في استقامتها واعوجاجها، الرحمة العميقة في شدتها ولطفها، المودة الحقيقية في الرعاية والاهتمام والتغاضي والتقدير. كانا طفلين في أجساد بالغة وعادا طفلين في أجساد متهالكة وذاكرة مسافرة تعود من رحلتها ولا تبقى طويلاً. وبعد خمسين عاماً وربما أكثر، تزامنا في الدخول للمستشفى، كل واحد منهما في غرفة بالعناية المركزة، مفترقين لكن أرواحهما مجتمعة، كل واحد منهما يردد اسم الآخر، كان هو على يقين أنهما سيغادران معاً كالعادة، يقين طفل أن أمه لن تتركه أبداً. لكن للقدر خطة أخرى، وللحياة سيناريو مختلف، كأن الحياة تقول لهما لقد آن الأوان وحان الوداع، وحل الفراق وخيم الموت، وتراخت الأيدي وكانت الأنفاس الأخيرة، هي صامتة لا حول لها ولا قوة وهو ينادي ولا حياة لمن ينادي فيشتد نداؤه، ويكون نداءً عالياً ومبكياً، (هيا) أين هيا أين أمي (هيا) لم تكن زوجته فقط، كانت مجموعة نساء في نهر الحنان والود. الآن منزوي في الغرفة البعيدة في أقصى المنزل، والأنابيب الطبية داخل أنفه يحاول العبث بها، يهدأ قليلاً ويثور كثيراً وينادي (هيا) فيشتد بكاء المعزين. والبندري مفطورة القلب، حائرة بأبيها وخائفة أن يتكرر الفقد سريعاً تتحايل عليه بالحجج، لكنه لا يسكت ولا يهدأ حين يخبره قلبه بخلاف ذلك أعيتها الحيل ورسم البكاء على وجهها الحزن والألم، تخبرها الجارة القديمة لأمها أن تضع العطر في وسادة أو في ثوب لأمها وتجعلها قريبة منه كان حلاً سحرياً، تنهد براحة وارتخى الغضب والخوف ابتسم بود وقال: يا هلا بهيا يا (خلف أمي وأبوي).

ذو صلة