مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

لا تقربوا النساء وأنتم فقراء!!

الصوت الجميل موهبة من الله وحده، وليس منحة من أحد، ولا يوجد هناك معهد أو أكاديمية فنون تجعل من طالبها مطرباً مشهوراً ونجماً لامعاً، إذا لم يكن لديه موهبة الصوت العذب أولاً.. وكذلك الشاعر إذا لم يمتلك ملكة موهبة الشعر لم يُصنع منه شاعر، مهما درس في كليات الأدب العربي وهكذا دواليك.
بزغ نجم المطرب العراقي كاظم الساهر في مطلع الثمانينات الميلادي، عندما كان (كورساً) في فرقة المسرح العسكري بالعراق أثناء الحرب (العراقية - الإيرانية) 1980 - 1988، وهناك أصوات أقوى منه في الساحة الفنية العراقية، لكنه ذكي وعازف وملحن، واستطاع أن يلتقط الكلمات المؤثرة للمستمع العربي وتدغدغ مشاعره وتحرك إحساسه العاطفي، ويلحنها ويغنيها بنفسه.
يقول المطرب كاظم الساهر عن تجربته وإحدى محطاته الفنية في مسيرته الغنائية: «عندما قرأت كلمات (أنا وليلى)، ظللت أبحث عن الشاعر كاتب الكلمات خمس سنوات متتالية، وعندما نشرت نداءً وإعلاناً لمعرفة مؤلف تلك القصيدة وجدت كاتبها رجلاً عراقياً بسيطاً وفقيراً مسكيناً، وهو أستاذ لغة عربية يدرس في إحدى المناطق النائية في بغداد، فعندما جاءني جلب لي القصيدة كاملة (355 بيتاً من الشعر العربي). وكل من يدعي أن هذه قصيدته، يجلب لي بيتين أو أربعة أبيات من القصيدة نفسها، فلما جاء (حسن المرواني) إلى الأستوديو وبدأت بتلحين القصيدة أجهش بالبكاء! وقال لي أنا لست شاعراً؛ لأنني كتبتها تعبيراً عن حالة إنسانية وقصة حقيقية مررت بها أيام الدراسة الجامعية. لقد أعدت لي الذكريات الصعبة».
الشاعر حسن المرواني من جنوب العراق. كان شاباً من عائلة فقيرة جداً. كان يشقى ويدرس، ومرت الأيام تلو الأيام وأصبح من الطلاب المجتهدين في جامعة بغداد كلية الآداب.
كان إنساناً بسيطاً متساهلاً متواضعاً جداً، صاحب لسان وكلمات رزينة مؤثرة. هندامه بسيط، ولكن داخله كنوز من المواهب، وقعت أنظاره على فتاة من زميلاته تسمى (ليلى)، فأحبها وأحبته أيضاً، واتفقا على الزواج بعد التخرج، وفي آخر سنة من العام الدراسي أتت ليلى ومعها خطيبها! صعق وانصدم حسن المرواني بعدها بقوة. ترك الدراسة لفترة، لكن من حسن حظه أنه لم يُلغِ قيده. وفي يوم التخرج دخل حسن المرواني يرتدي بدلة سوداء، ولكن الدمعة مخنوقة بصدره وتتدلى من طرف عينه. سلّم على الأصدقاء وجلس معهم قليلاً من الوقت، كان قبل ذلك بيومين قد قال حسن المرواني لصديقه أشرف الكاظمي إنه كتب قصيدة لكن ليس بوسعه أن يقرأها، فقال له صديقه سنرى عزيزي من الأعز عندك أن تقرأها أم تخسرني! وبعد نصف ساعة من جلوس حسن المرواني على الطاولة مع أصدقائه إذا بصوت ينادي ستسمعون الآن يا إخوان قصيدة من (حسن المرواني)، فوقف حسن مندهشاً.. والأنظار تتجه نحوه.. أجبرته تلك الأنظار المشدودة والمشهد على النهوض، فأمسك المايكروفون وقال: سألقي عليكم قصيدتي الأولى والأخيرة في هذه المسيرة. التفت ونظر إلى محبوبته (ليلى) بنظراتٍ يعلوها الحزن والأسى والحسرة.. وخطيبها واقف بجانبها، وقال:
ماتت بمحرابِ عينيكِ ابتهالاتي
واستسلمت لرياح اليأسِ راياتي
جفّت على بابكِ الموصودِ أزمنتي
ليلى وما أثمرتْ شيئاً نداءاتي
فبكت (ليلى) وذهبت وجلست في المقعد الأخير من المسرح! ودموعها تنهمل على وجنتيها، فنظر إليها من جديد.. ونظرة سريعة إلى خطيبها وقال:
عامانِ ما رفّ لي لحنٌ على وترٍ
ولا أستفاقت على نورٍ سماواتي
أُعتّقُ الحبَ في قلبي وأعصرهُ
فأرشفُ الهمَّ في مغبر كاساتي
قالت: يكفي.. يكفي.. يا مرواني..!! أرجوك!
ضعف الشاعر، وأراد أن يترك المايكرفون، وينزل من المنصة، إلا أن صديقه أشرف صرخ أكمل.. أكمل.. أكمل..
نزلت أول دمعة من دموع حسن المرواني وبدأت عيناه بالاحمرار، وقال:
ممزق أنا لا جاه ولا ترف
يغريكِ فيّ فخلّيني لآهاتي
لو تعصرين سنين العمرِ أكملها
لسال منها نزيفٌ من جراحاتي
فأشار إليها بإصبع السبابة! وبكل حرارةٍ قال:
لو كنتُ ذا ترفٍ ما كنتِ رافضةً..
حبي.. ولكن عسرَ الحالِ (فقرَ الحالِ - ضعف الحالِ) مأساتي..!
عانيتُ..عانيتُ..لا حزني أبوحُ بهِ
ولستِ تدرينَ شيئاً عن معاناتي..
أمشي وأضحكُ يا (ليلى).. مكابرةً..
علّي أُخبي عن الناس احتضاراتي..
لا الناسُ تعرفُ ما أمري فتعذرهُ..
ولا سبيلَ لديهم في مواساتي..
يرسو بجفنيَّ حرمانٌ يمص دمي..
ويستبيحُ إذا شاء ابتساماتي..
معذورةٌ(ليلى).. إن أجهضتِ لي أملي..
لا الذنب ذنبكِ.. بل كانت حماقاتي!
أضعتُ في عربِ الصحرٍاءِ قافلتي
وجئتُ أبحثُ في عينيكِ عن ذاتي..
وجئتُ أحضانكِ الخضراء ممتشياً..
كالطفلِ أحملُ أحلامي البريئاتي..
غرستِ كفكِ تجتثين أوردتي..
وتسحقين بلا رفقٍ مسراتي..
فبكى صديقه أشرف.. وقبل رأس حسن.. وقال أكمل.. فقال:
وا غربتاه... مضاعٌ هاجرت سفني
عني.. وما أبحرت منها شراعاتي
نُفيت واستوطن الأغرابُ في بلدي..
ودمروا كلَ أشيائي الحبيباتي
تأثر الجميع..حد البكاء.. فالتفت إليها وقال:
خانتكِ عيناكِ.. في زيفٍ وفي كذبٍ..
والتفت إلى خطيبها، وقال:
أم غركِ البُهرج الخدّاع..مولاتي..
فراشةٌ جئتُ أُلقي كحلَ أجنحتي..
لديكِ فاحترقت ظلماً جناحاتي..
أُصيحُ والسيفُ مزروعٌ بخاصرتي..
والغدرُ حطّم آمالي العريضاتي..
قالت(ليلى).. وعيناها تفيضُ بالدموع: يكفي أرجوك.. حسن أرغموني على ذلك.. لأنهُ ابن عمي..!
فصرخ:
وأنتِ أيضاً ألا تبتْ يداكِ..إذا
آثرتِ قتلي.. واستعذبتِ أنّاتي
من لي بحذف اسمكِ الشفافِ من لغتي..
إذن ستُمسي بلا ليلى حكاياتي..
ترك المايكرفون واحتضنه صديقه أشرف وهما يبكيان!
وقبّله وقال له: ياويلي.. قد أدمع عين الناظرين إليه.. واختلط الأنين بالبكاء..
وخرج وبعد خمس دقائق.. أغمي على (ليلى).. ونقلوها للمستشفى.. ورجعت بحالة جيدة.
ولكن كان لها أب قاسٍ جداً.. وخطبها لابن عمها.. فذهب ابن عمها لحسن المرواني وهو يبكي وقال: أنا آسف.. ماكنتُ أعرف بهذه القصة أبداً.. والله.. ثم والله..
قد جرت أحداث هذه القصة في سنة 1979م. ورحل حسن المرواني عن بلاده العراق.. وسافر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بسبب هذه القصة المأساوية.. وبقي هناك إلى الآن..
أما القصيدة فقد خُطّت على جدار جامعة بغداد، وهي موجودة إلى الآن تخليداً لذلك الإخلاص والوفاء والحب الرائع المحزن!
ولا عزاء لمن فقد حبيبه، بسبب الفقر والعوز والحاجة؛ لأن الحب انتفى.. والمشاعر تبخرت.. والإحساس تبلد.. في عصر التقنية الحديثة، التي ألغت كل تفاصيل آدميتنا!! وعشاق (الموبايل) اليوم يسهرون الليل.. ونسوا.. ليلى وحبها..!
وياعشاق الحب.. لاتقربوا النساء وأنتم فقراء!!

ذو صلة