مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

اللهجة الشعبية.. ذاكرة وطن

تأتي ضرورة اللغة في أنها تأتي في مقدمة التواصل مع الآخرين، فلا تفاهم مع الناس إلا باللغة، ففيها يعبر الإنسان عن مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وشخصيته وينقلها للآخرين، ومن خلال اللغة تعرفنا على حضارات من سبقونا وعلى أفكارهم وطموحاتهم.
وتؤثر اللغات مع بعضها البعض وذلك من خلال طرق التواصل المختلفة كالتجارة والارتحال والاحتلال. وقد تأثرت اللغة العربية بعدة لغات كالسريانية والآرامية والفارسية وغيرها، فمن هنا ظهر اللحن فأمر الحجاج أبا الأسود الدؤلي بترقيم القرآن الكريم.
وقد أثبتت الدراسات أن هناك اللهجات المحكية في البلد الواحد والتي تختلف من منطقة لأخرى وحتى أحياناً بين قرية وقرية مجاورة، وهي في أغلبها ذات جذور عربية فصيحة. ولا يعني بأي حال من الأحوال أننا إذا درسنا ودونا اللهجات المحلية أن تهمل اللغة العربية الفصحى حاشا لله لأنها محفوظة بالقرآن الكريم قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
ومفهوم اللهجة هي التي يتحدث بها مجموعة من الناس في منطقة معينة ومحدودة، وجميع اللهجات في البلد الواحد تتفرع من أصل واحد هي اللغة الأصلية لذلك البلد، وهي طريقة نُطق الإنسان لكلمة أو مصطلح بطريقة مغايرة لمنطقة أخرى وكلاهما يؤديان نفس المعنى، أما سبب اختلاف اللهجات فإنه يعود لأسباب عدة منها:
- الانعزال: تفرض منطقة معينة على حالها الانعزال حتى يحافظوا على معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وهي ردة فعل لحدث معين كالاحتلال مثلاً.
- الاحتلال الأجنبي: فالبلد المحتل يفرض لغته على المنطقة المحتلة كما أن الناس المستعمَرين يقلدون المستعمِرين في غالبية الأحوال.
- الهجرات: ومن الهجرات ما تكون طوعية، وقد عرفها العرب منذ عصور قديمة فقد هاجرت الكثير من القبائل العربية من الجزيرة العربية واستوطنوا بلاد الشام والعراق، وبعد الفتح الإسلامي هاجرت قبائل بني هلال وسليم إلى مصر والمغرب العربي فكان التعريب.
أما في العصر الحديث فهناك هجرة الأوروبيين إلى البلاد المكتشفة خصوصاً الأمريكيتين وأستراليا.
أما الهجرة القسرية: فهي أن يحل الغازي محل جماعة يسكنون في منطقة معينة وفرض سيطرته عليها وطرد أهلها طمعاً بها وبخيراتها والاستئثار بها دون غيرهم من الناس وهذا ما حدث في فلسطين.
- اختلاف البيئة: ويأتي اختلاف البيئة في البلد الواحد فمثلاً يوجد في الأردن بيئات مختلفة فهناك البيئة الغورية وهناك منطقة الهضاب والسهول الممتدة من شمال الأردن حتى جنوبه، وهناك البيئة الصحراوية ولكل بيئة من هذه البيئات مصطلحات وكلمات تختلف من منطقة لأخرى، فعلى سبيل المثال يلفظ وعاء حفظ اللبن في الإناء الجلدي (سِعِن) في البيئة الصحراوية، بينما يلفظ (شِكوَة) في منطقة الهضاب والسهول، ومن ذلك كلمة لماذا تلفظ في الجنوب (عويه) بينما تلفظ في الشمال (ليش).
- دخول مصطلحات جديدة: لقد أدخلت التكنولوجيا مصطلحات كثيرة واختلف لفظها بين اللغة الفصحى في اللهجة المحلية، فعلى سبيل المثال (راديو) فهي كلمة أجنبية وتلفظ في اللهجة المحلية (راديو أو رادو) بينما تلفظ في الفصحى (المذياع) وكلمة (التلفزيون) فتلفظ في اللهجة المحلية (تلفزيون أو تفزيون) بينما في الفصحى (التلفاز) وهكذا بالسيل المتدفق من المصطلحات التكنولوجية الحديثة.
الخبرة الأردنية في هذا المجال
لقد اعتنت وزارة الثقافة الأردنية بالإرث الثقافي غير المادي، لذا فقد قامت بتوثيق الأفراح الشعبية وغيرها بواسطة التسجيلات الصوتية أو التلفزيونية بواسطة مئات الأشرطة لتكون عوناً للدارسين والباحثين في الثقافة الشعبية.
كما تشكلت لجنة عليا سميت بلجنة مكنز التراث الشعبي الأردني وقد طافت كل الأردن وجمعت أكثر من خمسة وسبعين ألف كلمة ومصطلح من أفواه الناس من خلال باحثين فرعيين دربوا على طريقة الجمع وقامت اللجنة بتصنيفها إلى خمسة أبواب هي العادات والتقاليد والأدب الشعبي وأشكال التعبير الثقافي والفنون الشعبية وتقاليد أداء العروض والحرف والصناعات الشعبية والمهن التقليدية والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون. وأصدرت وزارة الثقافة ذلك في خمسة مجلدات عام 2021.
وقد قمت بتأليف كتاب (معجم اللهجة الحورانية)، وتقع حوران في شمال الأردن وجنوب سوريا، وكانت بلاد الشام وما زالت محط اهتمام الدول والشعوب الأخرى ويظن البعض أن اللهجة الأردنية قد تأثرت كثيراً بلغاتهم، وقد أثبت في المعجم أن تأثيرها بقي محدوداً جداً، وأن اللهجة الشعبية في حوران وبقية مناطق الأردن ما هي إلا من لهجات القبائل العربية في الجزيرة العربية، ومن أمثلة ذلك الكشكشة وهي قلب الكاف إلى تش ويقابله في الإنجليزية ch وتنسب هذه اللهجة إلى قبائل تميم وربيعة وأسد.
الاستنطاء وهي استبدال حرف العين إلى نون مثل أعطاني تصبح أنطاني وهي لهجة قبائل سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار وغير ذلك.
ولكل شعب من الشعوب هويته الوطنية الثقافية التي تميزه عن غيره من الشعوب، وواجب الدولة أن تحافظ على هذه الهوية عن طريق العناية بثقافة المجتمع المتوارثة عبر الأجيال وأهمها اللهجة والعادات والتقاليد والحرف والصناعات الشعبية وأبنيتها القديمة وحتى اللباس والألعاب الشعبية.

ذو صلة