مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بقاء اللهجات المحلية.. مسؤولية الأجيال

نحن كشعوب، لا يمكننا أن نتعايش ونتواصل ونزدهر إلا بوجود لغة موحدة نعبر من خلالها عن أفكارنا وطموحاتنا وهواجسنا، ما في ذلك شك. فهي -أي اللغة- حالة فريدة للإنسان، ميزه الله بها عن سائر الكائنات الحية، لأنها نظام معقد لا يمكن للحيوانات مثلاً أن تتواصل به أو تستخدمه.
وفي الحديث عن اللغة، لا بد من التمييز بينها وبين مصطلح آخر وهو: اللهجة، كوننا نصب اهتمامنا في هذا البحث حول موضوع (اللهجات المحلية). ففي تعريف ابن جني عن اللغة: (هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). وعرفها دو سوسير على أنها: (نتاج اجتماعي لملكة اللسان ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما، ليساعد أفراده على ممارسة هذه الملكة). أما اللهجة، فهي لغة نتعلمها من أهلنا فنعتاد عليها، وتصبح لغة يومية أقل تعقيداً من اللغة العربية الفصحى. فقد ورد في معجم العين أن اللهجة هي (طرف اللسان)، و(جرس الكلام)، وعرفت بأنها (اللغة التي جبل عليها الإنسان فاعتادها ونشأ عليها). وفي تعريف آخر هي (خصائص وصفات تميز بيئة ما في طريقة أداء النطق واللغة). وما نصل إليه من استنتاج، هو أن اللغة هي النطْق الموحد ذو القواعد الدقيقة والنظم الصارمة المتعارف عليها لأمة كبيرة، كاللغة العربية الفصحى التي تختص بالعرب جميعهم. أما اللهجة، فهي نظام يتفرع من اللغة، أي أنه يتفرع من الأمة الواحدة الكبيرة ليختص بمجتمعات صغيرة، يكون أقل تعقيداً، وأخف نظماً وقواعد، يميز فئة من فئات الأمة، لا الأمة بأكملها. إذاً، العربية هي لغة انقسمت إلى لهجات متنوعة ومختلفة، اختصت كل جماعة بلهجة خاصة بها. ولا شك في أن لا شيء ثابت، فالأفكار تتغير مع مرور الزمن، وكذلك الثراث، وطريقة اللباس والطعام والتعامل، كل الأمور تتقولب بحسب العصر الذي تزامنه. فما بالك باللغات واللهجات التي تتعرض لمتغيرات جمة بفعل التجارة والاحتكاك بين الشعوب المتعددة في حالات السلم والحرب؟ كل تلك المتغيرات قد تعد خيراً لتطور اللغة واللهجات، وقد تكون مهدداً حقيقياً يساهم في تبعثر معالمها وتشتت قواعدها، وقد يؤدي إلى زوالها كلياً في المستقبل. ولكن الثابت الذي لا جدال فيه، أن الحفاظ على اللهجات المحلية يشكل ثراءً حقيقياً لتراث المجتمع، كما يغني اللغة العربية أدباً وشعراً.
إن لهجة شعب ما، ما هي إلا صورة عن حضارته المميزة، ومرآة تعكس الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية التي عاشها، كما تعكس طريقة التعبير والتفكير والتواصل لديه، فإذا كانت اللغة هي هوية الأمة، فاللهجة هي هوية الجماعة، ولا يقوى الفرد أن يعيش من دون هوية خاصة فيه ينفرد بها ويتميز. وهنا نحن نتكلم عن لهجة واحدة، فكيف إذا غصنا في دراسة لهجات كثيرة وتعمقنا في الاختلافات المتشعبة عنها؟ هل نستطيع الاستهانة بهذا الثراء العظيم في فهم بيئات مختلفة؟ لا نستطيع حتماً لأن ذلك يشرع أبواباً وسيعةً أمام الدارسين والباحثين ليكون مادة دسمة لدراساتهم وأبحاثهم.
وإذا كانت اللهجات في الماضي قد خسرت بعضاً من ملامحها بسبب عوامل عديدة وكثيرة لن آتي على ذكرها تفصيلاً، إلا أننا اليوم نشهد مهدداً أخطر من السابق، يصر على زوال تلك اللهجات واعتماد لغة موحدة خاصة، وهي بعيدة حتى عن العربية الفصحى. ولم أصف ذلك بالمهدد الـ(أخطر)؟ لأنه اقتحم منازلنا من دون استئذان كلص سارق للأصالة، ونحن بدورنا لا نقوى على مواجهته!
بداية مع ظهور الثورة الصناعية التي سمحت للآلة بالحلول مكان الإنسان كيد عاملة، ونحن لا ننكر ما كان لهذه الثورة من فوائد من ناحية توفير الوقت وزيادة الإنتاجية، لكن تداعياتها السلبية تمحورت حول إلغاء الحس الروحي والإبداعي للفرد، وصولاً إلى ظهور العولمة وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي انتشرت بشكل رهيب، وأثرت سلباً على البشرية بأشكال مختلفة. ومن ضمن ما أثرت عليه، هو واقع اللهجات المحلية التي باتت مهددة بالاندثار. وهذا ما أكدته بيانات منظمة اليونيسكو في العام 2018، رابطة ذلك بأسباب ديمغرافية بشرية وطبيعية، وكذلك بالثورة الرقمية والعولمة.
فكيف للعولمة وللثورة الرقمية أن تجعل اللهجات المحلية مهددة بالانقراض والاندثار، على الرغم من أنها تقرب المسافات وتساهم بطبيعة الحال في انفتاح الثقافات والحضارات واللغات على بعضها البعض؟
صحيح أن للعولمة هذا الدور في الانفتاح، لكن لا يجب أن نغض النظر حول نقطة في غاية الأهمية وهي (التطهير الثقافي). ما معنى ذلك؟
يعني ذلك سيطرة الثقافة العالمية على تلك المحلية. فكما شهدنا اندثار العديد من العادات العربية التقليدية، وحلول المعتقدات والأفكار الحديثة التي باتت مظهراً من مظاهر التقدم والانفتاح. هكذا هو الحال مع اللغات واللهجات المحلية التي بات مستخدموها يفضلون استبدالها باللغة العالمية التي يصادفونها على مواقع التواصل الاجتماعي كلما تصفحوها. وإن كان للمتصفحين جميعهم الدور في ذلك، إلا أن فئة الشباب تؤدي الدور الأكبر، فهم يساهمون في تحقيق هذه الخطوة التي قد تكون -وأنا شبه أكيدة من ذلك- خطوة مقصودة وممنهجة لإلغاء ثقافات معينة يعتبرها المعنيون لا قيمة لها، فيسعون جاهدين إلى إلغاء ثقافات بأكملها لأن المصلحة تستدعي نشر ثقافة معينة ذات مبادئ ستستبدل العالم بآخر مقولب وفق منهج محدد.
تعتمد مواقع التواصل الاجتماعي على أنواعها (فيسبوك - إنستغرام - واتساب..) لغة موحدة ذات رموز وإشارات وأرقام. وقد اختزلت أصواتاً وحروفاً وكلمات، واستبدلتها بأخرى لا وجود لها في أية لغة، حتى باتت هذه اللغة هي الرسمية المعتمدة، لا على تلك المواقع فحسب، بل في الحياة اليومية أيضاً. وذلك فرض علينا فرضاً، وباتت الكتابة باللغة العربية الفصحى والتواصل باللهجة المحلية المحكية أمرين مضحكين وشأنين غريبين عجيبين يتم الاستهزاء بهما.
إن اضمحلال اللهجات المحلية إنما هو زوال للتراث الفكري والمعرفي، وطمس للهوية الخاصة، وخطر فعلي يهدد مستقبل الأجيال القادمة التي يقع على عاتقها مسؤولية كبيرة حيال هذا الموضوع.. فهل ستنجح في ذلك أم سيكون المخطط الممنهج أكبر من جهودها؟

ذو صلة