في عيادة الطبيب جلست أنتظر دوري. هناك سيدتان تلبسان زياً ينم عن أنهما قادمتان من منطقة ما في دلتا مصر، تتبادلان حديثاً بلهجة غير مفهومة، وبحكم عملي باحثاً في الثقافة الشعبية، وبعد نظرة فسلام فكلام، سألت عن البلدة التي جاءتا منها، وتحولت السيدتان للحديث باللهجة العامية المصرية، وكأنهما قد هبطتا من كوكب ثقافي مجهول. كثيراً ما نجد أقواماً يتحدثون إلى بعضهم البعض بلهجتهم الخاصة، وكأنهم يقصدون وضع ستار ثقافي بينهم وبين الآخر، تتغير اللهجات بشكل ملفت داخل البلدة الواحدة وعلى مسافات لا تتعدى كيلومترات قليلة، وقد تتعدى جماعة بعينها نطاق اللهجة لتصوغ لنفسها ما يمكن أن نطلق عليه (لغة رمزية مصطنعة) يصطلحون عليها، ويقصدون من ورائها إخفاء ما يقولون عن غيرهم، وقد يتخذ بعض أصحاب الحرف طريقة بينهم يطلقون عليها (سيما) حتى لا يفهم الغريب عنهم ما يقولونه أو ما يرمون إليه، فمثلاً يضع أهل مهنة الموسيقى الحرف الأول من الكلمة الثانية يسبق الكلمة الأولى فينجلي المعنى، فإذا أردت أن تنعت شخصاً بالبخل فتقول فلان (سخيل بلحة) وهكذا.
وتتسم اللهجات بخصائص تتعلق بالصوتيات وموسيقى الكلمة، ويلعب النطق والأداء دوراً لا يمكن تغافله، فاللهجات أوجه متعددة، قد يلجأ البعض لتغيير لهجته لأسباب عديدة، فاللهجة كاشفة عن الأصول العرقية والاجتماعية ودالة عليها، وكذلك عن الانتماءات الجغرافية، فكل إقليم لهجته، بل أحياناً لبعض القرى أو الجماعات وأصحاب الحرف لهجتهم الخاصة.
اللهجات ثراء وتنوع
كانت اللهجات محركاً لروح إبداعية جديدة في شعر العامية المصرية في ستينات القرن الماضي، وهو ما بدا في إسهمات شعراء الصعيد والدلتا الذين أضفت لهجتهم روحاً جديدة على شعر العامية، ونذكر منهم عبدالرحمن الأبنودي، وفؤاد حداد، وسيد حجاب.
ولا يخلو مجتمع في عالمنا العربي من تعدد اللهجات التي يتداولها أفراده، ويذهب بعض الدارسين إلى أن اللهجة الدارجة هي أصل اللغة الفصحى، وتمثل اللهجات في عالمنا العربي مجالاً واسع الدلالة يحمل في طياته معاني التنوع والثراء. ورغم ما قد تبدو عليه هذه اللهجات من بساطة وعفوية لدى متحدثيها ومستخدميها إلا أن التوقف عندها من منطلق معرفي يحمل كماً مركباً من المداخل إذا أردنا كشف معانيها وسبر أغوارها.
وقد حظيت اللهجات في عالمنا العربي بكمٍ وافر من الدراسات اللغوية والثقافية، فاللهجات تمثل بوتقة انصهرت فيها الخبرة البشرية، سواء من حيث التأثير والتأثر بين اللغات والثقافات التي تداخلت بفعل أمور عدة، منها السفر والتجارة والاحتلال، ناهيك عن التكنولوجيا وما أتاحته من مفردات جديدة، وما أفرزته من مجالات فرضت حضوراً للغات بعينها وفق ما قدمه أصحابها للمنجز الإنساني.
وتؤكد الاتفاقيات الدولية في مجالات الثقافة على أهمية التنوع اللغوي باعتباره عنصراً أساسياً من عناصر التنوع الثقافي، وهو ما أكدت عليه اتفاقية التراث الثقافي غير المادي التي صدرت عن (اليونسكو) في عام 2003، وكذلك اتفاقية التنوع الثقافي التي صدرت العام 2005، وهي اتفاقيات صادقت عليها معظم الدول العربية.
وإذا كانت الدراسات اللغوية قد أبدت اهتماماً كبيراً بدراسة اللهجات، فلم تتأخر الدراسات الشعبية، وخصوصاً ما يتعلق منها بالفنون القولية؛ في الاهتمام باللهجات، باعتبارها لب الدرس اللغوي الشعبي، وهو ما بدا جلياً في الدراسات التي تناولت هذا الجانب منذ ما يزيد عن نصف قرن، منها دراسة عبدالعزيز مطر (لهجة البدو في إقليم ساحل مريوط)، وكانت قد سبقتها دراسة أحمد أمين الموسومة بـ(قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية)، ولعل آخر الدراسات التي أبدت اهتماماً بهذا الجانب، وما طرأ عليه من تغيرات نتيجة ما لحق بالحياة المصرية جراء التكنولوجيا وتيارات الحداثة وما بعدها؛ هو (معجم لغة الحياة اليومية) تحرير وإشراف محمد الجوهري.
اللهجات في الثقافة المصرية
اللهجات في الثقافة الشعبية المصرية بحر زاخر وعميق، يحتاج الغوص فيه لمداخل متعددة، لا يمكن بحال الوصول إلى شواطئه، حيث تتسم اللهجات الشعبية في مصر بقدرة كبيرة على التغيّر والتحوّل، وهي مرآة للمجتمع الذي تصدر عنه، حيث تعبر عن جغرافيته وتاريخه، وما يطرأ عليه من متغيرات كثيرة، تستطيع اللهجات احتوائها والتعبير عنها.
وثمة خصائص لغوية تحملها بعض اللهجات، وتميزها عن غيرها، وذلك على مستويات عدة، وأهمها المستوى الصوتي، وكيفية إصدار الأصوات، والمستوى الصرفي، حيث تتميز بعض اللهجات بطريقة صياغة الأبنية الصرفية، وكذلك المستوى الدلالي، ففي بعض المناطق الساحلية المصرية نجد أن الأشخاص يتحدثون بصفة الجمع فيقولون (نشربو)، و(ناكلو)، (نروحو)، وهذه ظواهر تحتاج لدراسات اجتماعية وثقافية عميقة للكشف عن أسبابها، وإن كان البعض يعيد ذلك إلى اعتماد هذه المجتمعات على مهن ذات صفة جماعية مثل صيد الأسماك، فقد كانوا يخرجون للصيد جماعات ويعودن كذلك، ومن ثم تتشابه أفعالهم وعاداتهم.
ومن الظواهر الملفتة في اللهجات المصرية تكرار حروف بعض الكلمات، ففي اللهجة الصعيدية ينطقون كلمة الشمس (الشمش)، في حين ينطقها أهل ريف الدلتا (السمس) وينطقها أهل القاهرة ومعظم المدن الأخرى (الشمس)، وقد تتميز بعض المناطق بمفردات خاصة في لهجتها لا يعرفها غير أهلها.
وقد تتخذ بعض الكلمات معاني متعددة، فمثلاً يطلق أهل بور سعيد على احتفالية السمر لديهم (الضمة)، وتعني معجمياً (الجماعة من الناس وغيرهم ينضمون لبعضهم ليس أصلهم واحد)، وينسجم هذا المعنى مع نشأة احتفاليات السمر إبان حفر قناة السويس. وتأتي كلمة (ضُمي) بمعنى الحصاد، فالأغنية الشعبية تقول: ياحلوة (ضُمي) الغلة.. سبلة وسبلة ويله، والغلة مفرد غِلال أي حبوب، وسبلة تصحيف لمفردة سنبلة. وقد تقترب أو تبتعد معاني المفردات في اللهجات الشعبية عنها في اللغة الفصحى، فكلمة (تتاخر) تعني إفساح المكان ولا علاقة لها بالوقت. وهكذا تكتنز المفردة بمعاني ودلالات متعددة.
اللهجات الشعبية بوتقة للتثاقف
تتسع اللهجات العامية لكثير من المفردات الواردة من لغات أجنبية تبعاً لسياقات حضورها، وهناك مفردات تمتد في عمق التاريخ لتصل إلى زمن قدماء المصريين، ويمتد التأثير للغات كثيرة أخرى.
ويذهب الكثيرون إلى أن بعض المفردات ذات أصول مصرية قديمة، نذكر منها كلمة (أمبو) تعني (الشرب)، أو (خذ الماء للطفل) وكلمة (مم) وتعني (الأكل والطعام)، وكلمة (تاتا) وتعني (امشي) وكلمة (ياما) وتعني كثير، ناهيك عن مفردة (اشمعنى) وهي تعني (لماذا)، وكلمة (مدمس) وهي تلحق بكلمة (الفول المدمس).
ويستخدم المصريون في لهجاتهم بعض الكلمات الفارسية مثل (بندر) بمعنى (مرسى أو ميناء) وتعني عندهم (حضر أو مدينة)، وكلمة (استاذ) بمعنى (مُعلّم)، و(بخت) بمعنى (حظ).
كما استقرت فيها بعض المفردات التركية مثل (أوضه) بمعنى (غُرفة أو حُجرة)، وكلمة (أبله) بمعنى (مُعلّمة)، و(بانيو) وعاء الاستحمام، ، وكلمة (ترزي) بمعنى (خياط)، وكلمة (زقاق) وتعني (حارة سد)، وكلمة (بصمة) بمعنى (أثر الإصبع)، و(بصمجي) ويقصد بها في العامية المصرية من يجهل القراءة والكتابة.
اللهجات في أعمال فنان الشعب سيد درويش
اكتنزت أعمال الشيخ سيد درويش مفردات عامية تمثل لهجات لمناطق مصرية متعددة ولحرف وطوائف كانت مزدهرة في القاهرة إبان عشرينات القرن العشرين، حيث تميزت مصر آنذاك بوجود الكثير من الجاليات العربية والأجنبية، وامتلأت شوارعها وأسواقها باللهجات العربية المختلفة، فلم تكن بين البلاد العربية حينئذ حدود تحول دون تنقّل الأفراد، وكانت مصر وقتئذ مركزاً تجارياً مهماً يلتقي فيه القادمون من شمال أفريقيا من مغاربة وتونسيين وجزائريين، والقادمون من الجنوب من أهالي السودان والنوبة، والقادمون من سواحل البحر المتوسط من أتراك وشوام وأجانب من الإجريج والأرمن وغيرهم، هذا بالإضافة إلى اللهجات المصرية المختلفة في الصعيد والدلتا، وقد عبر سيد درويش في موسيقاه عن هذه اللهجات وأصحابها، وذلك فيما قدمه من خلال المسرحيات الغنائية التي قام بتلحينها، ومن هذه الأعمال التي تميزت بلهجتها نذكر مليحة جاوي الجلل الجناوي (اللهجة الصعيدية)، الجوار في مصر (لهجة السوادانية)، واحده أوه، وياولد عمي يابوي (الفلاحين في الدلتا)، تجار العجم (احنا أفندم تجار العجم)، الشوام (هلا بتضلو معايا شويه)، النوبيين (دنجي دنجي - اشنجردام - هيلي هالا).
وكذلك تناولت أعماله الحرف والطوائف، حيث تميزت لهجاتهم بالمفردات المعبرة عن خصوصيتهم، وما يتصل بمفردات المهنة والخطاب اليومي بين أفراد هذه الحرف والطوائف.
مخاطر محتملة وحلول مقترحة
قد يرى البعض أن اللهجات تنم عن أصالة اللغة العربية، وأنها تدور في فلكها، إلا أنه من الضروري التوقف عندها باعتبارها وعاء انصهرت فيه مجموعة من المؤثرات اللغوية والصوتية والثقافية، ويمكن اتخاذها مثالاً كاشفاً عن مفاهيم التأثير والتأثر والتثاقف نظراً لما مرت به الأقطار العربية من مراحل وأحداث فرضتها الجغرافيا والتاريخ، فضلاً عن التطورات التكنولوجية ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وتيارات الحداثة ونزعات التطور والنمو في أطرها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ومما لا شك فيه أن اللهجات مثلت وعاءً مرناً استوعب كل رياح التغيير التي هبت على الحياة في المجتمعات العربية بكل أطيافها، فاللهجة رداء كاشف سواء حفظها صاحبها وأبدى اعتزازه بها أو تنكر لها ولبس لساناً جديداً لأسباب كثيرة ظاهرة وباطنة.
فعلى حين كانت الجماعة الشعبية تنحت مفردات لهجتها وهي تنهل من نهر لغتها العربية محافظة على هويتها اللغوية، حتى ولو نالها بعض التغير وفق مقتضيات الحال وما تفرضه المعطيات الحياتية؛ نجد ثمة نحتاً جديداً لمفردات ومعانٍ وتعبيرات لا تُلقِ بالاً للغة الأم، ولا تحرص على التواصل مع الأجيال السابقة، فتتغير الدلالات وتتبدل السياقات، وينحو قطاع عريض من الأجيال الجديدة مناحي مقصودة يرمي وراءها إلى إثبات هوية يراها ضرورية للتعبير عن اختلافه عن آبائه وأجداده وفق ما أتاحت له رياح الحداثة والتحديث دون اكتراث لضياع الهوية أو تزييفها، وهنا مكمن الخطر، فلم تعد لغة الحياة اليومية فضاء يتيح التفاعل الإيجابي للمشاعر والأفكار وأنماط السلوك الاجتماعي بما يعمق الشعور الجمعي، ويؤكد أصالة الهوية؛ فقد غدا التليفون المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي والعوالم الافتراضية فضاءات كافية لقطاع عريض من الفئات الاجتماعية، وظني أن هذا المناخ وهذه الآليات ليست فقط ضد الإبداع الشعبي بمفرداته وعناصره المختلفة، وإنما تتيح تسرّباً لرياح قد تكون مسمومة وتحمل سمات نظرية المؤامرة على الهوية.
وهنا يطل السؤال المهم: هل من سبيل إلى تفادي الآثار السلبية المحتملة والمتوقعة على الثقافة الوطنية عموماً، واللهجات الشعبية خصوصاً؟
مما لا شك فيه أن إعمال الدرس الفولكلوري بما يحمله من مناهج وأدوات تعين على جمع مواد التراث الشعبي ودراستها وتحليل مضامينها، إضافة إلى إنشاء الأرشيفات الخاصة بعناصر الثقافة الشعبية، وخصوصاً ما يتعلق بالفنون القولية، بما تحمله من مفردات وتعابير هي قلب اللهجات الشعبية.
وإدراج هذه الفنون القولية وفق رؤية تصنيفية تراعى طبيعة عناصرها وأنواعها الفنية وإتاحتها للدارسين والمستلهمين في مجالات الإبداع المختلفة وفق شروط تحفظ لهذه العناصر وأصحابها حقوقهم الأدبية والمادية وفق قوانين الملكية الفكرية. كما أنه من الأهمية بمكان تسجيل هذه العناصر على قوائم التراث الثقافي العالمي غير المادي وفق إتفاقية 2003، ولا شك أن هذه الإجراءات من شأنها حماية المأثور الشعبي من رياح العولمة الآثمة، وتعد تأكيداً على حفظ هذه الحقوق وتكريساً لحمايتها، مع التأكيد مجدداً على الدور الأساسي للتعليم في حماية وتعزيز أشكال التعبير الثقافي.