مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

نوع اللهجات العربية المعاصرة وأثره الثقافي

1 - لمحة نظرية تأصيلية حول اللهجات العربية:
يعرِّف إبراهيم أنيس اللهجة، ويبيِّن الصلة بينها وبين اللغة بالقول: (هي مجموعة من الصفات اللغوية، تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة. وبيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل). وقد توافرت عوامل دينية وسياسية واقتصادية للهجة قريش التي تفاعلت مع اللهجات الأخرى، فاتُّخِذتْ لغةً مشتركةً على ألسنة الشعراء والخطباء في الأسواق العربية. وازدهرت هذه اللهجة بعد نزول القرآن الكريم، وصارت تطلق على العربية الفصحى.
وقد انتظمت الجزيرة العربية قبل مجيء الإسلام لهجات عامية عديدة (وإن العامية بين القبائل العربية كانت لغة الحياة اليومية في بيئاتهم المنعزلة، وعندما يلتقي أفراد هذه القبائل في الأسواق والمواسم كانوا يترفَّعون عن المستوى العامي، ويلتزمون بالعربية الفصحى. وتعايش المستويان الفصيح والعامي بعد هجرة القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية إلى المواطن الجديدة..). واحتفى علماء العربية الأقدمون بالعربية الفصحى، خدمة للقرآن الكريم، ووردت في مؤلفاتهم شواهدُ لظواهرَ لغوية من بعض اللهجات العربية كالعنعنة المنسوبة إلى لهجة تميم.
2 - العناية باللهجات العربية في العصر الحديث:
وعندما أتيحت للباحثين العرب الموفدين إلى أوروبا وأمريكا فرصٌ للدراسات العليا، وتعرفوا مناهج الدرس اللساني الحديث، حظِيَتْ دراسة اللهجات العربية بعناية كبيرة منهم، وفق المنهج الوصفي، فكُتِبَتْ رسائل جامعية في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن على أيدي باحثين، صاروا روّاداً في الدرس اللساني المعاصر، وتوجَّهوا لخدمة اللهجات العربية، وتفسير ظواهر العربية الفصحى، وعلى رأس هؤلاء المرحوم إبراهيم أنيس، وتبعه زملاؤه وتلاميذه، فدرسوا اللهجات العربية في التراث، واللهجات الحديثة، مثل لهجة تميم، ولهجات اليمن قديماً وحديثاً، وأصول اللهجات العامية في السودان، ولهجة البقارة في غرب السودان، ولهجة الشكرية في وسطه، ولهجة الشايقية في شماله، والتي توليت دراستها في مستويي الأصوات والتراكيب للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه.
وترجع أهمية دراسة اللهجات العربية الحديثة، لكونها ترجع إلى اللهجات العربية القديمة أكثر من رجوعها إلى الفصحى كما يرى إبراهيم أنيس، فوق أنها تسهم في تعضيد الرأي الذي يذهب إلى أن الفصحى حصيلة من اللهجات المختلفة، وأن دراستها تفيد في معرفة القراءات القرآنية.
ولم تكن العناية بدراسة اللهجات الحديثة مقصورة على الباحثين الذين أشير إليهم، بل أولتها المجامع اللغوية العربية عناية واهتماماً، وقد نصَّ قانون مجمع اللغة العربية بالقاهرة لسنة 1882م، المادة الثالثة (ج) أن من وسائل أغراضه دراسة اللهجات العربية قديمها، وحديثها لخدمة العربية والبحث العلمي، ولأجل هذا خصَّ دراسة اللهجات بلجنة من لجانه، وجاءت هذه العناية باللهجات العربية في مسوَّدة قانون المجمع السوداني لعام 2018م، وقانون مجلس اللسان العربي في موريتانيا.
3 - أثر اللهجات العربية الحديثة في خدمة العربية الفصحى، والبحث العلمي والثقافة:
هناك الكثير من الظواهر اللغوية التي تناثر الحديث عنها في مؤلفات علماء العربية، ونظر إليها علماء العربية على أنها انحرافات عن العربية الفصحى، والواقع أنها تمثل لهجات قبائل عربية كانت منعزلة في شبه الجزيرة العربية، ولكن المتحدثين بها كانوا يلتقون في مكة في المواسم والأسواق العربية. من ذلك كما أشرت من قبل ظاهرة العنعنة المنسوبة لقبيلة تميم، وتتمثل في قلب الهمزة عيناً وقد وردت في بيت لابن هرمة يقول:
أعن تغنَّت على ساق مطوقةٌ
ورقاءُ تدعو هديلًا فوق أعواد.
وقلب الهمزة عينًا في (أنَّ) ظاهرة شائعة في عربية أهل السودان: يقولون (لع) في لا، و(سُعال) في سؤال، وهي نوع من المبالغة في تحقيق الهمزة، كما يرى رمضان عبدالتواب، والصوتان يشتركان في عدد من الخصائص الصوتية. وقد تناول محمد غالب عبدالرحمن دراسة نطق القاف غيناً في العربية السودانية وبعض أقطار العالم العربي، وخلُص إلى ما ذهب إليه إبراهيم أنيس إلى أن اللهجة السودانية أشبه اللهجات في هذا النطق بأمها الفصحى.
وليس تفسير الظواهر اللغوية الصوتية مقصوراً على الأصوات المفردة بل نجد ذلك على مستوى المقاطع الصوتية، حيث يتحول المقطع المزدوج الإغلاق المنتهي بصامتين إلى مقطعين، من ذلك ما ورد في كلمة (شُغُلٍ) في قوله تعالى:(إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ). وقد ذكر الطبري أنه قرئ فِي شُغْلٍ.. و(فِي شُغُلٍ) بضم الشين والغين.. وتوجد هذه الظاهرة في اللهجات العربية السودانية، وفي لهجات المملكة العربية السعودية.
وفي مستوى البنية الصرفية، ونظام الجملة الكثير من الظواهر اللغوية الواردة في كتب تراث العربية التي يمكن أن تسعفنا دراسة اللهجات العربية المعاصرة بتفسيرها، من ذلك تصحيح اسم المفعول (مكيول)، وإلحاق علامات التثنية والجمع بالفعل المسند للمثنى والجمع، وقد ورد هذا في قول الشاعر:
تولَّى قتالَ المارقين بنفسه
وقد أسْلماه مبعدٌ وحميمُ.
وهذه الظاهرة ملحوظة في اللهجات العربية المعاصرة. يقولون: قابلوني الأصحاب، وليس قابلني.
وهكذا تمثل هذه اللهجات معيناً غنياً يسهم في دراسة الفصحى وتفسير ظواهرها، فوق أنها تحمل محتوى ثقافياً غنياً يعبِّر عن المضامين اللغوية للمتحدثين بها في الأقطار العربية المختلفة، لذا نحن معشر اللغويين حريصون على دراستها، وتسجيل نماذج منها قبل أن يطويها التغيير والتبديل.
والله الموفق.


* رئيس مجمع اللغة العربية السوداني

ذو صلة