مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

جلال برجس: دفاتر الوراق من أكثر الروايات التي قلت فيها ما أريد

حوار/ محمد فهد العقيلي: الأردن


معروف عن الروائي الأردني جلال برجس بأنه (الكاتب العربي الذي لا يمتلك إلا ثلاث ساعات في اليوم لممارسة القراءة والكتابة)، وبأنه الكاتب الذي بقي ثمانية عشر عاماً في الصحراء الأردنية يعمل في هندسة الطيران الحربي، يمارس ثلاثة أدوار إبداعية حيال ما يكتب قارئاً وناقداً وكاتباً، من دون أن ينشر ما كتب، أو يمارس أي نشاط ثقافي، إلا في عام 2007م، السنة التي غادر فيها عمله، وانضم إلى عمل آخر في القطاع المدني. تلك التجربة هي التي صقلت موهبته، وجعلته يؤمن أكثر بالكتابة وجدواها. خلال سنوات قليلة في عمره الأدبي، أصدر مجموعات شعرية، وقصصية، وكتب في أدب المكان، وتميز بالكتابة الروائية، إذ نال عدة جوائز أردنية، وعربية، وعالمية، آخرها الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) 2021م، وترجمت رواياته إلى عدد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والهندية، والفارسية. في هذا الحوار نطل على عوالم جلال برجس الإبداعية، والإنسانية، ونطل على أسراره التي أوصلته إلى هذه المرتبة المهمة في عالم الأدب العربي. المجلة العربية أجرت هذا الحوار مع الأديب جلال برجس:

نبتدئ معك من حيث ما أنت عليه في هذه المرحلة من مكانة في الأدب العربي. كيف استطعت أن تصنع ذلك لنفسك، رغم عملك الصحراوي الطويل، ورغم ضيق الوقت جراء طبيعة مهنتك؟
- إنه الإيمان بالكتابة، كسبيل للخلاص، وللتعبير عن آدميتنا. عبر السنوات الطويلة التي عملت فيها في الصحراء الأردنية الشرقية، تعلمت كيف أفهم نفسي، وبالتالي أفهم ما حولي. لقد كانت القراءة سبيلي الوحيد لمقاومة كثير من المصاعب. قادتني القراءة إلى الكتابة التي من خلالها جنيت التوازن الذي أريده. كنت الكاتب والناقد والقارئ لما أكتب. أمارس الكتابة بجنون، وبإيمان من يصنع قارباً لينجو بنفسه. بعد المرحلة الصحراوية من عملي، لم أجد إلا ثلاث ساعات يومياً للكتابة والقراءة. إنها مسؤولية الأب تجاه عائلته في أن يوازن بين ما يريده أولاده، وبين ما يريده هو. لكن من خلال استثماري لذلك الوقت استطعت أن أمضي في مشروعي الأدبي.
ما بين هندسة الطيران الحربي والرواية والشعر، هناك مسافة شاسعة. كيف حلقت فيها؟
- أدركت منذ اليوم الأول لي في الصحراء أن لا سبيل لواحد مثلي خسر أحلامه في دراسة ما يريد، وفي تجاوز الحدود نحو أوروبا إلا المواجهة عبر القراءة والكتابة، مواجهة نفسي أمام عالم جديد عليَّ بكل تفاصيله. لهذا وجدني زملائي كائناً منعزلاً وقليل الكلام، أحدق فقط بما بين يدي من كتب. لم أكن نشيطاً في عملي، وحتى أني كنت أجد حاجزاً هائلاً من الكراهية بيني وبين الطائرة، والصحراء. لكني حين رأيت الطائرة عند غروب أحد الأيام الصيفية تتقاطع بقرص الشمس، حدث تصالح غريب بيني وبينها. حتى الجمادات لها أبعاد يجب تأملها فيحدث التصالح، هذه الحالة التي قربتني كثيراً من عوالم الصحراء، فاستغرقت في القراءة والكتابة.
يحتل عمك الراحل الدكتور عبدالعزيز غليلات مساحة كبيرة من ذاكرتك، هل لنا أن نقول إنه عراب جلال برجس؟ كيف حدث ذلك؟ وما الذي قدمه لك؟
- هو معلمي الأول، إذ تشكلت ملامح وعيي بكل مستوياته على يديه. كنت على مقربة من رجل وعيه مزيج فريد من الأصالة والحداثة في الآن نفسه. وعلى يديه أيضاً قرأت أول كتاب حينما دلني إلى عوالم الكتب، وما يمكن أن تفعل بي، وكتبت أول نص بعد أن أعطاني مفاتيح الكتابة، وسرها. لقد دفعني إلى عالم التأمل، وقراءة ما وراء الأشياء، تأمل أفضى بي فيما بعد إلى عوالم أحدثت لدي توازناً طالما تمنيته. لقد كنت في تلك المرحلة القروية بأمس الحاجة إلى معلم يزيل الغبار عن زجاج نافذتي الداخلية، لأرى ما أحدق به محاولاً فهمه. وحينما عاد من أوروبا واستقر في القرية وجدت ضالتي. كانت تلك الليالي في مجالسته عبارة عن حلقات درس معرفية، ومصابيح تنير أمامي دروباً معتمة، وإشارات إلى حقائق ما كان لي أن أمسها لولاه.
على مدار خمس عشرة سنة، عملت في الصحافة، وفي الإعلام الثقافي الإذاعي، وترأست عدداً من الهيئات الثقافية، وأدرت، وترأست هيئات تحرير بعض المجلات الثقافية، كنت ناشطاً ثقافياً بشكل لافت في هذا المجال. ألم تخشَ من أن تقف تلك المهمات عائقاً أمام تدفق نتاجك الأدبي؟
- كانت ممارستي لتلك الأفعال الثقافية مدفوعة بما في دواخلي من مقترحات، ورؤى، وأمنيات بوعي ثقافي متميز. إنها ممارسة قادمة من إيماني بالفعل الثقافي وبما يمكن أن يضيف إلى إنسانيتنا، لهذا لم أجدها عائقاً أمام الكتابة، بل محفزاً كبيراً رغم ضيق وقتي. أؤمن أن من أحد أهم أدوار الكاتب هو ممارسة العمل الثقافي ليس ليقترب من الناس فقط، بل ليقترب من نفسه، ومن إمكاناته.
 من بين الروايات والمجموعات القصصية والأعمال الشعرية التي أصدرتها نجد أن روايتك (دفاتر الوراق) هي الأقرب إليك وجدانياً، والأكثر انتشاراً وترجمة؛ لماذا؟
- إنها حصيلة جانب كبير من تأملاتي، وانطباعاتي، ورؤيتي للكون، انطلاقاً من المكان الذي أعيش فيه. الفكرة الروائية لا تأتي منفصلة عما يسبقها. إنها تولد جراء تراكم المشاهدات، والتأملات، وزاويتنا الخاصة في رؤية أنفسنا وما حولنا. دفاتر الوراق من أكثر الروايات التي قلت فيها ما أريد. يغدو هذا النوع من الروايات، مثل يد تزيل أوزاناً عن كتفي ليس فقط لأن فيها رؤية استشرافية، بل أيضاً لما حاولت قوله حتى على ما يمسني كإنسان في هذه المرحلة العالمية الصعبة.
نالت أعمالك العديد من الجوائز لعل آخرها جائرة البوكر 2021م. ونلت نجومية في الشأن الأدبي؛ هل هناك ما يربك في هذا الأمر؟
- الجوائز طريق إلى القراء، لكن نجوميتها متعبة أكثر مما هي جميلة. جميلة حين أجد أن أعداد قرائي يتزايدون وبالتالي هناك من يتأمل ما كتبت من زاويته الخاصة، ويحتفي بكلمتي، وبتلك الزاوية التي أنظر من خلالها إلى العالم. وحين ألتقيهم أحظى بمحبة تضيف إلى روحي الكثير، لأني ابن الشارع بكل لحظاته. ومتعبة لأنها تضعني في دائرة الضوء، وتجعلني تحت حالة قصوى من المراقبة، وتجردني من التصرف بشكل طبيعي، وهذا يتطلب مني الحفاظ على ألا يتسلل هذا الضوء إلى منطقة الكتابة التي تخصني، حتى تبقى تلك المساحة منطلقي الأول مع أي كتاب جديد مصاباً بالقلق ذاته، والحماسة الفطرية ذاتها.
 إلى أين ستأخذنا سيرتك الروائية (نشيج الدودوك)؟
- في (نشيج الدودوك) أروي سيرتي من خلال زيارتي لثلاث مدن في العالم: (لندن، الجزائر، والعاصمة الأرمنية يريفان)، إذ بني هذا الكتاب على ثلاثة عناصر: سيرتي، وسيرة الكتاب الذي يرافقني في السفر، وسيرة تلك المدن التي زارها. أصطحب القارئ بلغة الرواية ووعيها إلى سيرتي الحياتية، والأدبية ابتداء من طفولتي في القرية، مروراً بالمرحلة التي عاشتها في الصحراء الأردنية الشرقية قبل انخراطي في عالم الأدب، إذ يطلع القارئ على العوامل التي كانت وراء خياري في القراءة، والكتابة، وما هي رؤيتي تجاه هاتين المسألتين، سيرة تتقاطع بسيرة ثلاثة كتب، تماماً مثل تقاطعها بسيرة المدن التي أعاين حركتي فيها، إذ يصير المكان عنصراً مهماً في هذا الكتاب، مثله مثل باقي العناصر. أتكئ في كتابي هذا على مستوى من المكاشفة والاعتراف، ومحاورة للذات، وعلاقتها بماضيها، وحاضرها، ومكانها بوعي معرفي، ورؤية جمالية، ونزوع فلسفي يرتهن إلى اللغة القادرة على الكشف الداخلي. كما وأطرح عدداً من الأسئلة التي تسائل الحياة برؤية وجودية، أهمها: لماذا نقرأ، ونكتب، ونسافر؟ وهل كل هذه الأفعال الإنسانية هروب أم مواجهة؟
هل هناك رواية تدعوك لكتابتها في المرحلة القادمة؟ وهل سنرى مادبا -المدينة التي أحبها جلال برجس- في عمل روائي يخصها؟
- مادبا موجودة في كل رواياتي، إنها منطلقي المكاني والثقافي الأول، وقد عاينتها روائياً في (حكايات المقهى العتيق) الرواية التي كتبتها بمعية تسعة كتاب من أبناء المدينة. لدي ما سوف أنشغل بكتابته روائياً حين أجد الفرصة الكتابية المناسبة.

ذو صلة