اتصل المتنبي بسيف الدولة ابن حمدان، أمير وصاحب حلب، سنة 337 هـ, وكانا في سن متقاربة، فأصبح المتنبي مقرباً إلى أمير حلب, نديماً له في مجلسه, ورفيقاً له في سفره, ومصاحباً له في حروبه. وبعد تسع سنوات من الصفاء والمودة بينهما كان آخر عهد المتنبي بسيف الدولة الحمداني في مجلسه أثناء مناظرة لغوية, حيث جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابن خالويه وكان المتنبي ساكتاً، فقال له الأمير سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب، فتكلم فيها بما قوى حجته، وأضعف قول ابن خالويه، واستمر النقاش حتى قال المتنبي لابن خالويه: اسكت ويحك فإنك عجمي، وأصلك خوزي، وصنعتك الحياكة, فما لك وللعربية؟ فحرد منه خالويه, وأخرج من كمه مفتاح حديد لبيته وضرب به المتنبي، فأجرى دمه أمام مرأى ومسمع سيف الدولة الذي لم يحرك ساكناً, فغضب المتنبــــــــــي وتــــــــرك المجلس. وبهذا الموقف وضع المتنبي حداً لعلاقته بسيف الدولة الحمداني التي استمرت تسع سنوات ليسدل فصلاً من فصول سيرته بمغادرته حلب سنة 346 هجرية. إلا أن هذا الموقف أخرج لنا قصيدته الميمية التي عاتب فيها سيف الدولة الحمداني، واعتد فيها بعروبته وبنفسه. وتعد القصيدة من عيون الشعر العربي؛ لما جمعته من مشاعر متناقضة فيها عتاب يصل حد الاستجداء, واعتداد بالنفس يطوق حد الكبرياء والأنفة. هذا فضلاً عما حوته القصيدة من حكم سرى بعضها مسرى المثل.
واحـرَّ قلبـاهُ مِمَّـنْ قلبُـهُ شَبـِــمُ ومـنْ بجسمـي وحالـي عنـده سَقـَمُ
ما لي أكتمُ حبـاً قـد بـرى جسـدي وتدعـي حُـبَّ سيـفِ الدولـة الأمـمُ
إن كـان يجمعنـا حــبٌ لغرتــه فليـتَ أنـَّا بقـدرِ الحـب نقتسـِـمُ
قـد زُرتـُهُ وسيـوفُ الهنـْدِ مُغْمَـدَةٌ وقـد نظـرتُ إليـهِ والسيـــوفُ دمُ
فكـان أحســنَ خلـقِ اللهِ كلَّهـِــمِ وكـان أحسنَ مـا في الأحسـنِ الشيـمُ
فـَوْتُ العَـدُوِّ الـذي يَمّمتـُه ظفـَـرٌ فـي َطيِّـهِ أَسَـفٌ فـي َطيِّـهِ نِعَــمُ
قد نابَ عنكَ شديـدُ الخوفِ واصْطنَعَتْ لك المهـابة ُ مـا لا تصْنـعُ البُهَــمُ
ألزَمْـتَ نفسـك شيـئاً ليـسَ يلزمُها أنْ لا يُـواريـهُـمُ أَرْضٌ ولا عـلـمُ
أكلمـا رُمْـتَ جيشـاً فانثنـى هَرَبـاً تصَرَّفـَتْ بـِكَ فـي آثـارِهِ الهمَــمُ
عليـكَ هَزْمُهُــمُ فـي كـُلِّ مُعْتـَرَكٍ ومـا عليـك بهـم عـارٌ إذا انهزموا
أما ترى ظفـَراً حُلْـواً سِـوى ظَفَــرٍ تصافَحَـتْ فيهِ بيـضُ الهنـدِ و اللَّمَمُ
ياأعـدلَ النـاسِ إلاّ فـي معاملتــي فيكَ الخصـامُ وأنتَ الخصـمُ والحَكَـمُ
أعيذهـا نظـَراتٍ مِنـْكَ صادقـــة ً أنْ تحْسَـبَ الشحْـمَ فيمـن شَحْمُهُ وَرَمُ
ومـا انتفـاعُ أخـي الدنيـا بِناظِـرِهِ إذا استـَوَتْ عِندَهُ الأنـوارُ والظُّـلُـمُ
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ
أَنـامُ مـلءَ جفونـي عَـنْ شوارِدِهـا ويسهـرُ الخلـقُ جَرّاهـا وَيَخْـتصِـمُ
وجاهِـلٍ مَـدَّهُ فـي جَهْلِـهِ ضَحِكـي حتـى أتـتـهُ يَـدٌ فَرّاسـةٌ وَفـَــمُ
إذا رأيت نيـوب اللـّيـثِ بـارزةً فـلا تظـنَنَ أَنَّ اللـّيـثَ يبْتسـِــمُ
ومُهْجَـةٍ مُهْجتـي مِـنْ هَـمِّ صاحِبها أَدْرَكتهـا بجَـوادٍ ظَهْـرُهُ حَـــرَمُ
رجـلاهُ فـي الركضِ رجلٌ واليدانِ يدٌ وفعلُـهُ ماتريـدُ الكَـفُّ والقـَــدَمُ
ومُرْهَـفٍ سِـرْتُ بيـن الجَحْفليْـنِ بِهِ حتـى ضَرَبْـتُ وَمَـوْجُ المَوْتِ يلتطِمِ
الخيـلُ و الليـلُ والبيـداءُ تعـرفني والسيـفُ والرمـحُ والقرطاسُ والقلمُ
صَحِبْـتُ في الفَلَواتِ الوَحْـشَ مُنفرداً حتـى تعَجَـبَ مِنـِّي القـورُ والأَكَـمُ
يا مَـنْ يَعِـزُّ علينـا أَنْ نفارِقَهـُـمْ وجْداننـا كـُلَّ شـيءٍ بعدكـُمْ عَـدَمُ
مـا كـان أخلَقـَنا منكـم بتكرِمَــةٍ لـو أنَّ أَمْرَكـُمُ مـن أمرِنـا أَمَــمُ
إن كـان سَـرَّكمْ مـا قـال حاسِدنـا فمـا لجَـرِحٍ إذا أرضاكـُمُ ألـَــمُ
وبيننـا لو رعيتـمْ ذاكَ مَعْرِفـَــة إنَّ المَعَـارِفَ فـي أهْـلِ النهَـى ذِمَمُ
كـمْ تطلبـونَ لنـا عيبـاً فيُعْجزكـُمْ وَيكـرَهُ الله مـا تأتـونَ والكـَــرَمُ
مـا أبعـدَ العيبَ والنقصانَ عنْ شرَفِي أنـا الثريـا وذانِ الشيْـبُ والهَــرَمُ
ليتَ الغَمَـامَ الـذي عندي صَواعِقـُهُ يزيلُهُـنَّ إلى مـن عنـده الدَّيَــــمُ
أرى النّـَّوَى تقتضينـي كـلَّ مَرْحلةٍ لا تستقِـلُ بهـا الوخـّادَة ُالرُّسـُــمُ
لئـن تركـنَ ضميـراً عـن ميامِنِنا ليَحْدثـنَّ لِمــنْ ودَّعتهـم نـَـــدَمُ
إذا ترحّلـتَ عـنْ قـومٍ و قـد قدَروا أن لا تفارِقهُـمْ فالراحلـون هـُـــمُ
شـرُّ البـلادِ مكـانٌ لا صديـقَ بـِهِ وشـَرُّ مـا يكسِـبُ الإنسانُ ما يَصِـمُ
وشـرُّ ما قنَصَتـْهُ راحتـي قنـَـصٌ شهْـبُ البُـزاةِ سـواءٌ فيـهِ والرَّخـمُ
بأيِّ لفـظٍ تقـولُ الشعـرَ زِعْـنِفَــة ٌ تجـوزُ عِنـْدكَ لاعُـرْبٌ و لا عَجَـمُ
هـذا عِتابُــكَ إلاّ أنـّهُ مِقـَـــة ٌ قـد ضُمِّـنَ الـدُّرَّ إلاّ أنـه كَـلِــمُ