مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

عبداللطيف الحميدان.. تسعون عاماً في محراب العلم

سليمان بن أحمد التركي: الرياض


شاء الله أن أرتبط بصداقة وثيقة مع المؤرخ د. عبداللطيف بن ناصر الحميدان، رغم فوارق السن والتجربة والمعرفة، فوجدته نموذجاً فريداً وأصيلاً في إنسانيته، ورائداً في العلم والبحث والتأليف، وذخيرة لا تنفد في الأدب والخُلق والتواضع، وراعني منه الحرص والدأب والجَلد والروح الوثابة التي لم يهزمها تقدمه في السن.
ولما كان  عازفاً عن الأضواء، زاهداً في الظهور الإعلامي ومناسبات التكريم، معرضاً عن تدوين سيرته ومذكراته، بل يشتد حياؤه حين يسمع حديث الناس عنه، مع أن الدهر عركه، والتجربة صقلته؛ كان لابد لي من إلقاء الضوء على شيء من حياته، وتوثيق جوانب من مسيرته الحافلة، وأرجو أن يؤدي هذا المقال بعض الواجب نحو أستاذنا الجليل.
اسمه وأسرته
عبداللطيف بن ناصر بن أحمد بن ناصر بن إبراهيم بن عبدالعزيز الحميدان. تنتمي أسرته إلى مدينة (جلاجل) في إقليم (سدير) في (نجد). وقد نزح جزء كبير منها إلى مدينة (الزُّبير) لأسباب معيشية واقتصادية. وتبوأت الأسرة منزلة مرموقة في موطن هجرتها جنوبي (العراق)؛ لاشتغال بعض أعيانها بالتجارة، وحاز العديد من أبنائها الشهادات الجامعية العليا في وقت مبكر نسبياً، (مرحلة الأربعينات والخمسينات الميلادية).
ونالت أسرة الحميدان شرف خدمة الملك عبدالعزيز ودولته الفتية في حقبة مهمة من تاريخ الوطن، فعمل الوجيه: إبراهيم بن حمد الحميدان (المعروف بحسن الخط وإجادة الحساب) أعواماً عدة بدءاً بالعام 1334هـ / 1916م؛ مسؤولاً في إدارة جمرك (العقير) التاريخي، الذي يعد الميناء السعودي التجاري الرئيس على الساحل الشرقي، وبوابة الحجاج والبضائع والسلع إلى المملكة. وكانت الجمارك حينذاك من أهم إدارات الدولة؛ فهي قوام المال والمورد الأكبر للبلاد، وتؤلف وارداتها السنوية الجزء الأعظم من دخل الحكومة.
وجرى استقطاب الحميدان -ضمن مجموعة من النجديين المؤهلين علمياً- للعمل في جمارك المنطقة الشرقية وموانئها البرية والبحرية المتعددة، بترتيب وإشراف وإدارة مباشرة من وكيل الملك عبدالعزيز في (الزُّبير) الوزير: عبداللطيف بن إبراهيم المنديل (الباشا).
ومن أعلام الأسرة المبرزين: د. يوسف بن عبدالله الحميدان، وكيل وزارة الصحة سابقاً، ومؤسس جمعية مكافحة التدخين في المملكة، ورئيس تحرير المجلة الطبية السعودية، والمؤلف المعروف، وهو ثاني طبيب (نجدي) تخرجاً في (مصر) بعد د. يوسف الهاجري وزير الصحة السابق.


مولده ونشأته
ولد في محلة (الزهيرية) في مدينة (الزُّبير) في العام 1352هـ/ 1934م.
ونشأ نشأة جادة في بيئة نجدية خالصة محافظة، وتربى في بيت علم وتجارة.
فوالده كان رجلاً متعلماً ومتابعاً للمجلات والصحف، وتاجر حبوب وتمور في (البصرة)، وله اتصال دائم بنجد وبلدان الخليج والهند.
وكان والده (ناصر) وقبله جده (أحمد) وكيلين عن الوجيهين (سليمان) وشقيقه (عبدالرحمن) ابني حمد البسام في إدارة أملاكهما الزراعية في (البصرة).
وأما شقيقه الأكبر: إبراهيم الناصر الحميدان، الأديب المشهور وأحد رموز الرواية السعودية؛ فكان قارئاً نهماً يجلب إلى البيت كتب الأدب ودواوين الشعر والروايات والصحف العربية والإنجليزية.
وهو ما غرس في نفس أخيه الأصغر (عبداللطيف) حب المطالعة والتلذذ بها منذ صباه الباكر، فاجتذبته القراءة للزيات والعقّاد وجبران خليل جبران والرافعي ومي زيادة والأدب الروسي المترجم وغير ذلك.
تعليمه الأولي
درس مبادئ العلوم الشرعية وحفظ قصار السور في الكتاتيب على الشيخ (الملا): إبراهيم بن محمد الرمّاح في المدرسة الملحقة بمسجد الزهيرية في مدينة (الزُّبير). وهو المسجد الذي كان يؤم الشيخُ إبراهيم الناس فيه.
وتعلم وهو طفل دون السادسة: القراءة والكتابة، وشيئاً من أحكام الطهارة والصلاة والآداب الشرعية، وحفظ بعض القصائد والأناشيد.
وكان أستاذه مربياً فاضلاً ناسكاً عابداً، معروفاً بتفانيه مع طلبته وإخلاصه لمهنته وزهده في الدنيا.
تعليمه النظامي
المرحلة الابتدائية: درس المرحلة الابتدائية في مدرسة طلحة الابتدائية بالزُّبير، وهي إحدى المدارس النظامية التي أُسست في نهاية العشرينات الميلادية في محلة (الزهيرية)؛ لتساند المدارس النظامية الأربع الأخرى في المدينة وتخفف العبء عنها؛ بعد أن زاد إقبال الأهالي على إلحاق أولادهم بالتعليم النظامي.
وكان مقرها القديم الذي درس فيه الحميدان قصراً للشيخ إبراهيم بن عبداللطيف الزهير آخر من تولى مشيخة (الزُّبير) من أسرة الزهير، ثم آل مُلكه إلى أسرة الفدّاغ الثرية، فاستأجرته الحكومة منها ليكون مقر المدرسة.
ومن زملاء د. الحميـــدان فيهـا:
د. مصطفى بن علي الرشيد الدغيثر أحد علماء البيئة السعوديين.
وممن تخرّج في هذه المدرسة: د. داود بن يوسف الفدّاغ، أول طبيب نجدي يتخرج في كلية الطب الملكية في بغداد، وذلك في العام 1366هـ/1947م.
المرحلة المتوسطة: التحق بالمدرسة الإعدادية المركزية في (البصرة) ودرس فيها السنة الأولى.
وممن تخرج في هذه المدرسة: الشيخ عبدالعزيز بن زيد القريشي، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، محافظ مؤسسة النقد.
ثم أكمل دراسة السنتين الثانية والثالثة في متوسطة (الزُّبير) للبنين وتخرج فيها.
وكان من زملائه فيها: الشيخ يوسف بن عبدالرحمن الأحيدب وكيل وزارة الداخلية للبلديات، ووكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية.
المرحلة الثانوية: درس المرحلة الثانوية في ثانوية الملك فيصل في (البصرة) في العام (1369هـ/1950م)، وكان من أكثر أساتذته تأثيراً فيه: العالم النجدي الجليل د. يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين، عضو هيئة كبار العلماء سابقاً، والأديب والقاص البصري محمود عبدالوهاب.
ومن زملائه فيها: المحقق المعروف د. محسن غيّاض أستاذ الأدب في جامعات بغداد وأم القرى والإمارات.
وقد توثقت آنذاك صلة الحميدان بمكتبات البصرة بدءاً بمكتبة مدرسته، والمكتبة العامة، والمكتبة العباسية (آل باش أعيان)، فضلاً عن المكتبات التجارية.
وتفتحت أمامه - في البصرة - أبواب فسيحة للقراءة والمطالعات الواسعة، وامتد اهتمامه إلى حضور أمسيات شعرية وأندية ثقافية تقيمها بعض الهيئات والمؤسسات والبيوتات الرفيعة.
وشهد الحميدان وهو - طالب في الثانوية - زيارة الأمير (الملك) سعود الثانية لمدينة (الزُّبير) في العام 1372هـ/ 1953م.
وحضر الحفل الكبير الذي أقامه الأعيان والأهالي تكريماً لجلالته في مكتبة الزُّبير العامة الأهلية، وتحتفظ سجلات الزيارة وصورها الأرشيفية بصورة جميلة لابن عمه الأستاذ عبدالقادر الحميدان حاملاً صورة ضخمة للملك سعود أثناء مراسم استقبال أهالي (الزُّبير) لجلالته.
وكانت زيارة الملك سعود الأولى للزُّبير في العام 1356هـ/1937م، والثالثة في العام 1377هـ/1957م بعد أن بويع ملكاً على البلاد.
تعليمه الجامعي ودراساته العليا
البكالوريوس: كان كبار السن يرتادون ديوان أسرته يومياً، فاستمع في صغره إلى أحاديثهم وحكاياتهم ورواياتهم حول شؤون سياسية واجتماعية كثيرة من بينها، تاريخ (الزُّبير) السياسي والمشيخات التي تتابعت على حكمها، وما اتصل بذلك من أحداث ونزاعات.
وعندما أنهى المرحلة الثانوية كان حب التاريخ قد تأصل في أعماقه، ووجد فيه نفسه، وزاد اطلاعه على مصادره وكتبه المتوافرة له حينذاك.
وتاقت نفسه لإكمال دراسته الجامعية، وكان إلحاق الأبناء في الجامعات في داخل العراق أو خارجه من خصائص الأسر النجدية المتعلمة والمقتدرة في العراق الملكي.
وبرغبة أكيدة وقناعة تامة اختار التاريخ تخصصاً له، فانتقل إلى (بغداد) ليدرس التاريخ في دار المعلمين العالية في (بغداد)، إحدى أقدم مؤسسات التعليم العالي في (العراق).
وتخرج فيها متفوقاً في العام 1377هـ/ 1958م. وكان في آخر دفعة تخرجت في هذه الأكاديمية العريقة التي أسست في العام (1342هـ / 1923م)؛ لتصبح بعد تخرجه (كلية التربية) وتُلحق بجامعة بغداد.
ودرست معه في دار المعلمين: الروائية سميرة بنت عبدالرحمن المانع، شقيقة (نجيب المانع) المترجم والأديب المعروف.
وقد تخرج في دار المعلمين العالية عبر تاريخها الطويل عدد كبير من الأعلام، منهم: المؤرخ د. عبدالرزاق الهلالي، د. علي جواد الطاهر، د. نازك الملائكة، بدر شاكر السيّاب، د. إبراهيم السامرائي، عبدالرزاق عبدالواحد، الشيخ عبدالله بن عثمان القصبي، الشاعر سليمان العيسى، وغيرهم.
ومن حسن حظ  الحميدان أن وافقت سنوات دراسته الجامعية الثريّة بالمعرفة والتحصيل؛ وجود علماء كبار وأساتذة أعلام في دار المعلمين، يشار لهم بالبنان، ممن وضعوا بصماتهم في الكتابة التاريخية العربية المعاصرة، وكان مولعاً إبان دراسته بتتبعهم، فتتلمذ عليهم واستفاد منهم كثيراً في تكوينه العلمي ولاسيما في مناهج البحث والكتابة والتفكير.
ومن هؤلاء العلماء على سبيل المثال: الدكتور علي الوردي، والدكتور مصطفى جواد، والدكتور عبدالعزيز البسام، والدكتور عبدالعزيز الدوري، والدكتور طه باقر، والدكتور صالح العلي.
كما أفاده تردده الأسبوعي على شارع (المتنبي) في اقتناء مجموعات مهمة من كتب التاريخ والأدب والرحلات؛ فكانت نواة مكتبته الخاصة.
وطيلة سنوات دراسته الأربع في (بغداد) كانت (المملكة العراقية) تموج بتيارات سياسية وتفاعلات فكرية متباينة ومتشابكة، إلا أن الحميدان كان ينزع - كما هو شأن أهل بلدته النجديين - إلى الاستقلال والتروي، وبقي يقظاً راسخ الأصول لم ينزلق في متاهات التجاذبات الفكرية أو يندفع في حلبات الصراع السياسي الساخن، بل ظل مراقباً لما يجري فحسب، وكانت حاله كما يصف نفسه: «كنتُ في النار ولم أحترق!».
ولم تعكر تلك الأجواء الكدرة صفو دراسته، بل أقبل عليها إقبالاً شديداً، واتصل بأساتذته اتصالاً وثيقاً، وعكف في المكتبات ودور العلم والوثائق، وبنى شخصيته العلمية بالقراءة والبحث والدرس. وقد جنى ثمار قراره واختياره.
الماجستيـــــر: اختــــــار (القاهرة) للحصول على درجة الماجستير في التخصص نفسه من معهد الدراسات العليا الإسلامية في (القاهرة)، في العام 1386هـ/ 1966م.
وكانت إقامته في (مصر) خصبة مثمرة، فتوسع فـــــي الدراســـــة والبحث، والاطلاع والقراءة، وعقد أثناء دراسته الصلات مع لفيف من العلماء والمؤرخين، وأفاد من صحبتهم، وتعرف من خلالهم على عدد من المكتبات العامة والخاصة، وتمكن من تصوير واستنساخ مئات من الوثائق العثمانية والمخطوطات وسجلات المحاكم الشرعية التي استند إليها في بعض مؤلفاته وبحوثه، وناولها بأريحيته المعهودة مَنْ قصده من الباحثين والدارسين.
الدكتوراه: كانت (المملكة المتحدة) خاتمة أسفاره  في سبيل تحصيله الأكاديمي، وفتحت الرحلة إلى (مانشستر) أمامه آفاقاً رحبة، وأمدته بمناهج جديدة، وأتاحت له مكتبات (أكسفورد) و(كامبردج) و(لندن) و(أدنبرة) أن يجمع بين ثقافة الشرق والغرب.
وقد توّج رحلته بنيله درجة الدكتوراه من كلية الآداب في جامعة (مانشستر) في (المملكة المتحدة)، في العام 1395هـ/ 1975م. وكان عنوان أطروحته: (التاريخ السياسي والاجتماعي لبغداد والبصرة من 1479 - 1888م). وأشرف عليه فيها أستاذه المستشرق الشهير وأحد أقطاب الدراسات العربية في أوروبا: كليفورد بوزورث. ويُقر  بفضله في فتح آفاقه البحثية وتوسيع مداركه وتمتين معارفه، واستمرت صلته به حتى وفاته قبل بضع سنوات.
ومن زملاء الحميدان في جامعة (مانشستر) في السبعينات الميلادية: د. سليمان العسكري أمين المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، د. عبداللطيف الحسن كبير القانونيين في سابك، د. سليمان الغنام عميد كلية الآداب بجامعة الملك عبدالعزيز، د. زيد الزيد المنيفي أكاديمي في جامعة الكويت.
وقد ألم به في غربته ما كاد أن يصرفه عن مراده، فهب إخوته الكبار له دعماً ورعاية بالمال حتى نال مراده، ولم ينس صنيعهم؛ بل كان وفياً معهم، معترفاً بجميلهم، وأهدى مؤلفاته لهم تخليداً لذكرهم.
أعماله ووظائفه
عمل بعد تخرجه مباشرة معلماً بمعهد المعلمين في (البصرة) مدة أربع سنوات، وكان أول راتب تقاضاه (30) ديناراً.
والتعيين في معاهد المعلمين عزيز، ولا يُرشح لها إلا الخريجون الأوائل في الجامعات، وكان الحميدان منهم.
ثم انتقل بعدها للعمل في إحدى مدارس مدينة (بقيق) بالمنطقة الشرقية قرابة سنتين، وبعد قبوله في مرحلة الماجستير بالقاهرة استقال، وسافر إليها للدراسة على حسابه الخاص.
وبعد حصوله على الماجستير؛ عُين محاضراً في جامعة البصرة، ودرّس فيها مدة يسيرة، ثم رحل في إجازة دراسية إلى (المملكة المتحدة) لنيل الدكتوراه من جامعة (مانشستر) كما سبقت الإشارة.
وبعد أن حاز الدكتوراه؛ عمل بضع سنوات أستاذاً للتاريخ فرئيساً لقسمه بكلية الآداب في جامعة البصرة، وعضواً في مجلس الكلية، وعضواً في هيئة تحرير مجلة الجامعة.
ثم عاد إلى موطنه الأم المملكة العربية السعودية، فعُيّن أستاذاً في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، ثم أصبح رئيساً للقسم.
وواصل في (الرياض) أعماله في التدريس والتأليف والإشراف على عشرات الرسائل الجامعية، واشترك في كثير من المؤتمرات والمنتديات والملتقيات في الشرق والغرب، وساهم في ألوان شتى من النشاط العلمي والبحثي مدة تزيد عن خمسة وأربعين عاماً.


بعض طلابه وتلاميذه
كان حظُّ طلاب د. الحميدان منه كبيراً، يمدهم بكرم وسخاء من غزير علمه ودقيق بحثه، وضرب لهم خير مثل في عمله المحكم، ونشاطه المتصل، فتخرج على يده وانتفع بعلمه نخبة من مؤرخي المملكة العربية السعودية، وأساتذة الجامعات، وصفوة الباحثين، ومنهم على سبيل المثال:
د.عبدالرحمن المديرس، د. عبدالكريم المنيف الوهبي، د. محمــد القرينــي، د. سهر سمرقندي، د. راشد بن عساكر، د. حمد العنقـــري، د. خالـــد المانـــع، د. خليف الشمري، د. علي المهيدب، د. صفية الرويلي، د. دايل الخالـــــدي، د. علـي الصيخان،
د. سعيد بن مفرح، د. سالـــم القرني، د. سطــام الحربي، د. مريم المهوس، د. منى الخيال، د. موضي المطيري، د. ابتسام الصافي، د. خالد الجوهي، د. نياف المطيري، د. إيمان القحيط، د. الجوهرة العيسى، د. سارة باجابر، د. منيرة آل سلطان، د. مهند حكيم، د. نهاد آل إبراهيم، وغيرهم.
فلا غرو أن يُعد د.الحميدان من دعائم النهضة التاريخية المعاصرة في المملكة، وأستاذ جيل بل أجيال.
ولا يزال مسروراً بتلاميذه ومريديه، ويعدهم محل فخره، وتاج آثاره.
ويظهر أثره في طلبته وطالباته الذين درسهم أو أشرف عليهم في جوانب عديدة، منها: تميّز رسائلهم العلمية، وقوة موضوعاتها وأهميتها، وجودة مضامينها.
ومن المؤسف أن غالب تلك الرسائل لا تزال حبيسة الأدراج! وكم عزّ عليه تأخر نشرها.
وقد شغل د. الحميدان رئاسة أو عضوية عدد من الجهات، منها: جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون، مركز الخليج العربي بجامعة البصرة، مجلس كليات البنات في عليشة، اللجنة التاريخية السعودية، اتحاد المؤرخين العرب، الجمعية التاريخية السعودية. وكان له جهود في هذه الجهات، وتوجيه وتقويم، وملاحظات ومقترحات.
جهوده العلمية والبحثية والأكاديمية
يعد د. عبداللطيف بن ناصر الحميدان أحد كبار العلماء المتخصصين بالتاريخ العثماني وتاريخ العرب الحديث، ولاسيما المشرق العربي.
وقد تعلم اللغة التركية العثمانية وأجادها وضمَّها إلى العربية والإنجليزية، وأصبح يتعامل مع الوثائق العثمانية ويترجمها بنفسه إلى العربية دون واسطة.
وفضلاً عن التدريس مدة تزيد عن نصف قرن، فهو من أبرز المؤرخين العرب ذوي المرجعية المتميزة، ليس في المملكة وحسب، وإنما في دول الخليج العربي والعراق والشام، وذلك في التخصصات المذكورة كافة.
وقد أولع بتاريخ شرق الجزيرة العربية، واستوعب مراجعه ومصادره، وكشف كثيراً من جوانبه، وسدت جهوده العلمية ثغرات فيه، بل أنارت فترات مظلمة منه.
ويؤمن د. الحميدان أن التاريخ كلٌّ متصل الأجزاء، وحقبه مترابطة زمنياً وموضوعياً بما قبلها وبعدها، وأن من الغلط البيّن تقطيع التاريخ وفصله عن بعضه عند دراسته وتفسيره. وأنه لابد للدارس من استقصاء المصادر، وتحليل المعلومات، ومقارنتها بعضها بالآخر، ونقد الروايات التاريخية، وملاحظة ميول المؤلفين والرواة واتجاهاتهم، فضلاً عن استحضار الأوضاع العلمية والاجتماعية والسياسية التي كُتب في أثنائها النص. وقد نعم الباحثون بإنتاجه العلمي على مدى عقود، وانتفعوا بمؤلفاته ودراساته المتصفة بالثراء العلمي، والأسلوب المتين، والبعد عن الحشو، والاستقراء والتتبع، وعرض الآراء ومناقشتها بموضوعية وعقل متفتح دون تحيّز، والاطلاع الواسع على المصادر العربية والأجنبية والإفادة منها، مع القدرة الفذة على تفسير الحوادث والظواهر وأسبابها وتحليلها وتعليلها، والخلوص إلى نتائج جديدة بعيداً عن التقليد والتكرار والمحاكاة، مع التزامه بالتصحيح والتجديد، والأمانة في العزو. وكثيراً ما يعتز بنسبة بعض المعلومات إلى أصغر تلاميذه. وقد استُقبلت مؤلفاته وبحوثه استقبالاً حسناً عند القراء وفي الأوساط العلمية. وصدره فسيحٌ يتسع للنقد النزيه، ويستقبله في ثقة، بل يفرح به، وبكل بحث أو مقال يرد عليه أو يناقش آراءه، وكنتُ أقرأ عليه شيئاً مما وقفتُ عليه، فيُنصت ممسكاً بقلمه ويكتب على أوراقه ما يراه جديراً بالتدوين والمراجعة. ولا شك في أن هذه سمة نادرة، وتدل على تجرده للمعرفة والحقيقة. كما كان يهتز طرباً للفائدة والنادرة ولاسيما في تخصصه، ويقيدها على الفور، ويأسى حزناً إذا فاته ذلك ثم نسيها. وقد شهد له بعمق المعرفة، وسعة الأفق، وشمول الاطلاع، والبعد عن الجمود، والبصر بالوثائق والمخطوطات، أكابر العلماء الموسوعيين. وفي طليعتهم: علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر الذي أفرد عن د. الحميدان وجهوده العلمية مقالة طويلة، والشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وغيرهما، بل أفادوا من بحوثه الأصيلة ونقلوا منها. وكان الشيخ الجاسر يحيل طلبته ورواد مجلسه إلى د. الحميدان فيما يتصل بتاريخ شرق الجزيرة العربية.
وأما شهادات زملائه من كبار المؤرخين العرب كالدكتور فاروق صالح العمر، ود. عبدالله الصالح العثيمين، ومن في طبقتهما، فضلاً عن طلابه ومريديه؛ فهي عزيزة على الحصر.
وناقش د. الحميدان -كما سبقت الإشارة- العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في جامعات عديدة، كما حكّم مجموعة من الدراسات والبحوث لأغراض الترقية العلمية. وشارك أيضاً في تأليف مقررات دراسية للمرحلة الثانوية.
ومن المعروف حرص د. الحميدان على الاشتراك في مؤتمرات تاريخية علمية محلية وعربية ودولية، فهو شعلة متقدة وحركة دائمة في ميادين العلم والتاريخ.
وعُرف بزياراته المستمرة لعدد كبير من المكتبات ومراكز البحوث المتخصصة والأرشيفات في مختلف أنحاء العالم والتعاون معها، واستثماره الإجازات والعطل الدراسية في التردد عليها، ومنها على سبيل المثال: مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، مكتبة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، مكتبة جامعة السوربون، المكتبة الوطنية في باريس، مكتبتا الفاتيكان واليسوعيين في روما، مكتبة جامعة مدريد والمكتبة المركزية فيها، مكتبة المجمع العلمي في مدريد، مركز الوثائق بلشبونة والمكتبة المركزية في البرتغال، المكتبات العامة ودور الوثائق في إسطنبول وأنقرة، مكتبة المعهد الفرنسي في دمشق، مكتبة الجامعة الأردنية في عمان، مكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة، مكتبة المجمع العلمي العراقي والمتحف العراقي في بغداد، مركز الوثائق في أبوظبي، مكتبة جامعة الكويت، مكتبة جامعة سدني بأستراليا، مكتبة الكونغرس وجامعة ديوك في الولايات المتحدة الأمريكية، مكتبة برلين، ودار الوثائق في لاهاي بهولندا.
وكان نتاج هذا الجهد والترحال إلى عواصم العلم، وخزائن الوثائق والمخطوطات، ومعارض الكتب في دول الشرق والغرب؛ أن كوّن د. الحميدان مكتبة تاريخية خاصة متخصصة متميزة، ثرية بالنفائس وغنية بنوادر الوثائق العربية والأجنبية والتقارير القنصلية والمطبوعات القديمة. وتشغل الكتب والمصادر الأجنبية ثلث مكتبته العامرة.
وجمع د. الحميدان موادَّ علمية كثيرة من مصادر شتى؛ ساعدته في أصالة مؤلفاته وبحوثه ورصانتها وتميّزها؛ حتى أصبحت مرجعاً ونبراساً للدارسين والباحثين في الشأن التاريخي بعامة، وفي الدراسات العثمانية وتاريخ العرب الحديث، والتاريخ السياسي في شرق الجزيرة وجنوب العراق، والوثائق العثمانية والبرتغالية بخاصة.
مؤلفاته
1 - تاريخ العرب الحديث (بالمشاركة مع جلال يحيى وأحمد حسن جودة)، وزارة المعارف، الرياض، برنامج العلوم الإسلامية والأدبية والعلوم الإدارية والإنسانية لطلاب المرحلة الثانوية، 1408هـ/ 1988م.
2 - إمارة آل شبيب في شرق شبه جزيرة العرب (930-960هـ/1525-1553م)، الرياض، 1418هـ/1997م.
3 - تاريخ البصرة والأحساء والقطيف (907-959هـ/1501-1552م)، دارة الملك عبدالعزيز، 1442هـ/ 2021م.
4 - ولاية البصرة تحت حكم آل أفراسياب والتبعية العثمانية الاسمية (1025-1079هـ/ 1616-1668م)، جداول للطباعة والنشر والتوزيع، 2022م.
5 - السلطنة الجبرية في اليمامة وبلاد البحرين وعمان والمواجهة مع القوى المختلفة، جداول للطباعة والنشر والتوزيع، 2022م.
6 - لمحات تاريخية عن إمارة العصفوريين في أقاليم البحرين ونجد وعمان وعلاقاتها بالقوى الإقليمية، جداول للطباعة والنشر والتوزيع، 2022م.
7 - تاريخ مشيخة الزُّبير النجدية من النشوء إلى السقوط، جداول للطباعة والنشر والتوزيع، 2022م.
8 - صلة الدولة بالقبيلة منذ العصر العباسي المتأخر حتى القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، جداول للطباعة والنشر والتوزيع، 2023م.
9 - تاريخ فتح بغداد وما رافقها من المحن، لحاجي مصطفى البغدادي، (تحقيق ومراجعة)، دار الحكمة - لندن، 1445هـ/2023م.
10 - العراق في ولاية حسن باشا وابنه أحمد باشا، (1115-1160هـ/1704-1747م)، مكتبة النهضة العربية - بغداد، 1446هـ/2024م.
11 - السياسة والمجتمع في تاريخ العراق الحديث المبكر «باشوات ومماليك وشيوخ القبائل والحكم المحلي بين عامي 1802 - 1831م»، ترجمة ومراجعة، بالاشتراك مع د. محمد بن عبدالله الفريح (تحت الطبع).
دراسات منشورة
1 - إمارة العصفوريين ودورها السياسي في شرق شبه الجزيرة العربية. (مجلة كلية الآداب، جامعة البصرة، العدد 15، العام 1979م، وأعيد نشره مع زيادات وتصويبات في مجلتي العرب والوثيقة)، ثم طبع مستقلاً عن دار جداول - بيروت.
2 - الفتح المبين في سيرة البوسعيديين، مقالة نقدية، (مجلة كلية الآداب، جامعة البصرة، العدد 15، عام 1979م، وأعيد نشره في مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية - جامعة الكويت).
3 - التاريخ السياسي لإمارة الجبور في نجد وشرق شبه الجزيرة العربية. (مجلة كلية الآداب/ جامعة البصرة، العدد 16، العام 1980م).
4 - نفوذ الجبور في شرق شبه الجزيرة العربية بعد زوال سلطتهم السياسية 931هـ/ 1525م- 1288هـ/ 1871م. (مجلة كلية الآداب/ جامعة البصرة، العدد 18، العام 1982م).
5 - مكانة السلطان أجود بن زامل الجبري في شبه الجزيرة العربية. (مجلة الدارة، العدد 4 السنة السابعة، العام 1982م).
6 - مخطوطة علي بن عبدالله الموسوي محتواها وأهميتها مصدراً تاريخياً، (المجلة التاريخية المغاربية، العدد عدد 29-30، العام 1982م).
7 - الصراع على السلطة في دولة الجبور بين المفاهيم القبلية والملك، (دراسات تاريخية، الجزء 2، جامعة الملك سعود، العام 1995م).
8 - النظام المالي في القطيف في العهد العثماني: بحث ألقي في مؤتمر الدراسات العثمانية في تونس عام 1985م، ونُشر ملخص عنه في محاضر المؤتمر.
9 - دولة آل فضل في الأحساء والقطيف (931-961هـ/ 1525-1554م)، (حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، العدد 23، العام 1994-1995م).
10 - الصلة بين القبيلة والسلطة خلال الحقبة المغولية: البصرة والبحرين أنموذجاً 656-814هـ/ 1258-1411م قراءة في المشهد القبلي (2) (مجلة الجمعية التاريخية السعودية العدد 31 عام 2015م).
11 - صلة السلطة بالقبائل في العصور العباسية المتأخرة: البصرة والبحرين أنموذجاً 300-656هـ. / 913-1258م: قراءة في المشهد القبلي (1)، (مجلة العرب، المجلد 52، العدد 9-10، والعدد 11-12، العام 2017م).
12 - صلة القبيلة بالسلطة التركمانية في العراق: جنوبه أنموذجاً: قراءة في المشهد القبلي (2)، (مجلة الدارة العدد 2، السنة الثالثة والأربعين، العام 2017م).
13 - نشوء بلد الزُّبير النجدية أوائل القرن 12هـ/ 18م (مجلة العرب، المجلد 55، العدد 3-4، عام 2019م).
14 - ولاية الحسا تحت حكم آل بغدادي (1015-1081هـ/ 1606-1670م) (مجلة الدارة، العدد 2، السنة السادسة والأربعون، العام 2020م).
15 - عصيان الجلاليين في جهات الدولة العثمانية: آل طويل في بغداد أنموذجاً (1008-1017هـ/ 1599-1608م) (مجلة كلية الآداب، جامعة البصرة، العدد 102، العام 2022م).
16 - السيد عبدالجليل الطبطبائي وأسرته وعلاقاته بأعلام عصره، (مجلة رواق التاريخ والتراث - الدوحة، العدد 14، يناير 2024م).
17 - مقدمة ضافية لموسوعة الرحلة المكية والدولة المشعشية في الأحواز وجنوب العراق، الدار الجامعية للطباعة والنشر، 2021م.
18 - امتداد بنو خالد في جنوبي العراق (مخطوط).
تكريمه
كان أول من نادى بتكريم د. عبداللطيف بن ناصر الحميدان والاحتفاء به؛ تلميذه البار د. راشد بن عساكر، حينما كتب مقالاً في صحيفة الرياض بعنوان: «فلنكرم هذا الرجل وتاريخه».
وكان أهم تقدير ناله د. الحميدان عندما كرمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، عميد المؤرخين السعوديين، بمنحه جائزة ومنحة الملك سلمان لدراسات وبحوث تاريخ الجزيرة العربية في العام 1435هـ - 2014م، وذلك في فئة جائزة المتميزين من السعوديين.
كما كرمته جمعية التواصل للتنمية المجتمعية في المنطقة الشرقية؛ تقديراً لجهوده ومساهماته العلمية، في العام 1445هـ - 2023م.
وكرمته دارة الملك عبدالعزيز بأن طبعت على نفقتها كتاباً بعنوان: «بحوث ودراسات تاريخية مهداة إلى د. عبداللطيف الحميدان»، بالتعاون مع جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون، في العام 1446هـ - 2024م.
زواجه
تزوج في العام 1383هـ/1963م، ورزق بابنه (خالد)، وابنته (هند) طبيبة استشارية في أمراض الدم، ورئيسة قسم المختبرات بمستشفى الملك فيصل التخصصي، ورئيسة اللجنة الوطنية لبنوك الدم سابقاً.
من صفاته وسماته
- ولعه الشديد بالقراءة والاطلاع، وكانت مكتبته أحب شيء إليه، إذ يمضي فيها أغلب يومه ينهل من معينها منذ أن أصبح أستاذاً في الجامعة، ولا أذكر أني زرته إلا وجدته في مكتبته قارئاً أو كاتباً أو متفكراً، وكان يرقب معرض الكتاب عاماً بعد عام، ويتأهب له، بل حتى في مرضه الأخير كانت تُجلب إلى غرفته في المستشفى الكتب من معرض الرياض للكتاب. وكم زرته وقد قعد به المرض فينشرح صدره ويتهلل وجهه ابتهاجاً بما أقرأ عليه من البحوث والمقالات، ويجد في ذلك صحته وشفاءه.
- كرمه وأريحيته وبابه المفتوح، فهو يستقبل الطلبة والباحثين حضورياً وهاتفياً في مكتبته منذ السابعة صباحاً حتى السابعة مساء، وكان لهم مورداً عذباً لا ينقطع، لا يتضجر من طول بحث أو مناقشة؛ بل تشتد صلته وتقوى بمن يتدارس معه المسائل، ويُفسح المجال للأخذ والرد، وينصف من نفسه، وليس ثمة أمتع من مناقشته ولاسيما في تاريخ مدينته ومسقط رأسه. ومن أكثر طلبته اتصالاً به وسعياً إليه وخدمة له في شؤونه العلمية د. حمد بن عبدالله العنقري.
- سماحة نفسه ولطفه مع الخدم، فكان يتلطف بهم، ويشاركهم في السراء والضراء، ويبادلهم الطرائف والنكت، ولم يكن يدقق في محاسبتهم، بل يتسامح معهم ويكرمهم ويتنازل لهم بطيب نفس عن المتبقي من العُهد والسُّلف التي بأيديهم، وأخبرني الناسخ المتعاون معه أنه يطلب من بعض جهات النشر تحويل المستحقات إلى حساب الناسخ مع أنه يعطيه أجراً مجزياً.
- محبته إطعام الطعام؛ فكان لا يرضى أن يأكل الخدم في بيته طعاماً أقل من أهل البيت، وإذا زاره ضيوف خرج بنفسه لشراء الحاجيات، وفي شهر رمضان يذهب - وقد جاوز التسعين - في عصر كل يوم إلى السوق ليجلب إلى خيمة الإفطار في المسجد المقابل لبيته في حي النزهة ما لذ وطاب من المأكل والمشرب، ويختار لكل يوم صنفاً جديداً، وقد عُني بذلك عناية خاصة، ويستشير سائقه ويأخذ برأيه، بل يشجعه ويكرمه.
- ثقته بنفسه وتواضعه، كنت يوماً بمعيته، فاتصل بشخصية علمية معروفة وطلب منه أن يقدّم له أحد مؤلفاته، وليست هذه من عادة د. الحميدان، فتفاجأ الشخص بالطلب وحاول الاعتذار تارة بعدم تخصصه وأخرى بفارق السن بينهما، ولكن د. الحميدان أصرّ عليه، وقال له: إن علم الإنسان لا يقاس بسنه بل بأثره وإنتاجه، وأنتَ من أغزر السعوديين إنتاجاً رصيناً، فوافق وكتب له مقدمة لطيفة.
- الوفاء مع أساتذته وشيوخه، وقد أشرت لذلك، ومما يضاف إليه: اتصاله الوثيق بأستاذه الشيخ د. يعقوب الباحسين، وملاطفته الدائمة له، بل اختاره شاهداً في عقد قران ابنته (د. هند)، وواصل زياراته إلى قبيل وفاته بأسبوعين، وقد بكى تأثراً بنبأ وفاته، ورثاه بمقال نشره ابنه يوسف في كتابه عن سيرة والده، وليس هذا بمستغرب عن وشيجة محبة وإخاء استمرت قرابة خمسة وسبعين عاماً. ومثل ذلك: دعاؤه لأستاذه الأول الشيخ إبراهيم الرمّاح وذكره له بالخير وثناؤه عليه في صبره واحتماله عبث الصبيان، وأبوته الحانية لهم.
- ذاكرته المتوقدة وذهنه الحاضر، فهو يستظهر الكثير من عناوين الكتب وأسماء المؤلفين بطريقة مدهشة مع تقدمه في السن، ويحفظ تواريخ وفيات كثير من الأعيان والسلاطين والعلماء، ويستهويه ذكر الوقائع والأحداث التاريخية، ومن شواهد قوة ذاكرته ما كان يرويه لجلسائه عن التفاصيل الكثيرة لتأثيرات الحرب العالمية الثانية على بلدته (الزُّبير)، وما ارتبط بها من حكايات ومواقف يرويها وكأنك تعيشها، ووصفه الدقيق بعض أعيان البلد وحكايته أخبارهم مثل: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الدغيثر أحد رجال الملك عبدالعزيز في (الزُّبير)، والشيخ محمد المشري شيخ (الزُّبير)، علماً أن إدراكه لهما وهو حينها في سن الطفولة.
- نزاهته وتعففه عن المعاملات المالية المشبوهة، كما كان يترفع عن المطالبة ببعض حقوقه المالية المتأخرة في بعض المساهمات أو لدى الجهات، ويسمو عن (مكاسرة) الناشرين وباعة الكتب، وله في ذلك مغزى لا يخفى.
- الاعتماد على الذات، وهو من أبرز ملامح شخصيته الإنسانية، فكان عصامياً من الدرجة الأولى، يباشر أعماله ويقوم بمسؤولياته، ولا يستعين بغيره إلا إذا غُلب على أمره.
- الأُنس بالأصدقاء والجلساء وحسن المسامرة معهم، فلأبي خالد أصدقاء ومجالس أسبوعية في مدينة (الرياض)، وفي إجازاته في (بيروت) و(لندن)، ويشترك معه في هذه الجلسات أصدقاء يسعون إليه، ويحرصون عليه، وينعمون به، ويتقاسمون معه محبة التاريخ والثقافة والفنون والمرح والمطارحات الأدبية.
هذه لمحات خاطفة عن سيرة رمز كبير من رموزنا العلمية المضيئة الذي سار على طريق الرواد الأوائل في إخلاصهم للمعرفة وتفانيهم في خدمتها.
أحب التاريخ وعشقه منذ الصبا، وعاش معه طويلاً في قراءاته ومؤلفاته وخلواته، وأحاط بمناهجه ومدارسه، وأمد المكتبة العربية بإنتاج رصين أفاد منه القراء، وحظي به الباحثون بوجه خاص.
فالتحية لأستاذنا الجليل أبي خالد متعه الله بالصحة والعافية، ولأجيال من المؤرخين الدارسين على يديه، المتتلمذين على منهجه، ولأسرته الكريمة وأصدقائه ومحبيه.

ذو صلة