مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الميت

حدثت هذه القصة قبل سنوات، في وقت كان فيه جسم الإنسان قوياً وعزيزاً. آنذاك عرفت الملاكم علي جاسم نغّاي، كان شخصاً انطوائياً، عنيداً وممقوتاً، وقد أطاح بخصومه وسحقتهم قبضته اليسار، فنال لقب (السبع). كان يوجه خطافيات سريعة كالبرق. تطايرت مصدّات أسنان منافسيه ممتزجة بلعابهم ودمائهم وذهولهم. لقد عشقتُ لعبه، وحضرت أغلب نزالاته، إذ حقق لقباً أولمبياً، واكتسح بطولات محلية. وما زال محمد علي كلاي مثاله المطلق، فقد زينت صوره حياته، وقلد أسلوبه بالملاكمة.
كان يعمل نجاراً، وقد تزوج من ابنة عمّه ورزقا ابناً، بينما أمضى كل وقته في النادي يتدرّب بصمت. طالما بثّ حضوره الكريه الرهبة بين خصومه، بينما يشدهم هدير لهاثه. كان يعلم أن منافساً ما سيتحداه، فأعدّ نفسه دون كللٍ، وظهر بالفعل متحدٍ شابه الملاكم جو فريزر، كان اسمه صبحي الأعسر، وهو أيسر مثله، إلا إنه كان قصيراً ولحيماً. جمعهما نزال عظيم. لاكمه شبيه فريزر وهو يندفع نحوه برأسه، تفادى ضرباته بصعوبة، وانتهى النزال بفوز علي نغّاي بالنقاط. لم يرضَ أبداً، مع أنه تعرّض للخسارة من آخرين: ملاكم من بغداد وآخر أفريقي. سامح الجميع إلا إن شبيه فريزر هو الذي علق برأسه.
شاهدت النزال، كان شبيه فريزر يتقدم منحنياً ويرسل ضربات خطافية مفاجئة وهو يراقب خصمه من أسفل. كانت عينه تراقبه، وقد رآها السبع في منامه، عيناً ترمقه من حفرة معتمة، وشك أنه استحق الفوز.
عندما بلغ السادسة والثلاثين اعتمد على خبرته وثقل قبضتيه، وقدرته على التحمّل. لكنه ظل السبع الذي صار بثقل الثور. ذات ليلة تابع مباراة بطله الأعظم وانهار شيء ما في أعماقه. لم يطق خسارة كلاي. فهو نفسه لم يخسر بهذه الطريقة المأساوية. كره ابتسامة لاري هولمز ونظرته اللئيمة، وتمنّى لو يرسل يسراه إلى أمريكا لتحطيمه. كان خائباً ومحترقاً. وشاركه بؤس ليلته بعض الملاكمين ممن تابعوا المباراة في أحدى المقاهي الرياضية. شرب أقداح ماء لتهدئة جنون قلبه، إلا إن أحدهم سخر من بطله الأعظم، سمع صوته حاداً وضاحكاً، كان فتى رياضياً، جاءه الصوت مباشرة، قوياً ولكم مؤخرة رأسه، فتخيّل أنه تقصّد إهانته. ربما أرسله خصومه عمداً.
لم يستطع كبح نقمته، لقد دعا بطله الأعظم بالثور العجوز. نهض واتجه نحوه وهاجمه. فاجأه بضربة على رأسه أطاحته من كرسيه ووجه له رفسات قاسية. وحين نهض الشاب مستلاً سكيناً خلع فكه بضربة صاعقة. أراد التوقف، أن يقرع جرساً في رأسه، لكن ضبابة غشته كتلك التي تعميه أحياناً في خضم نزال شرس. وجه ضربة أخرى فارتطم رأس الفتى بالجدار وفقد الوعي ليفارق الحياة بعد نقله إلى المستشفى.
حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً. قال لي إنه يودُّ رؤية القاضي الذي حكم عليه ليشكره، دون أن يوضح السبب. عمل نجاراً في ورشة السجن. وكنت أزوره فألتقي امرأته وبعض ذويه وشخصاً أو اثنين من أقاربه. ثم لم تعد تزوره سوى امرأته وهو يعيلها وابنهما بما يكسبه من النجارة. لكنه تفاجأ بزيارة شبيه فريزر له، وقد نسي اسمه.
قال له الرجل:
- لم يمنحني القدر فرصة الثأر!
- احتفظ بقوتك إلى يوم الإفراج عني!
كان يمارس بعض الرياضة في السجن، ويهرول في الباحة. سبقه صيته لدى إدارة السجن والسجناء. وبعد بضعة أشهر حصل على كيس رمل للتدريب، ولم يبخل عليه مضمّد السجن بلفاف بندج لحماية قبضتيه. كان المضمّد حسن يعمل في بناية المشرحة قبالة السجن، بينما جلب له أحد الضبّاط الرياضيين قطعتي دمبز. كانا يتلاكمان أحياناً وسط جمهرة المساجين المبتهجين، ولا يسمح علي نغّاي ليساره بتجاوز السنتمتر الأخير بينها ووجه الضابط الحفي. إلا إنه لم يستطع إخفاء طبيعة حركاته ومرونته. بعد ثلاث سنوات سُمح له بالمشاركة في نزالات محلية. عرفتُ أن شبيه فريزر من ناضل في اتحاد الملاكمة المحلي لمنحه فرصة. استقبله الرجل في حلبة ناديه. رافقه شرطي لم يحمل سلاحاً أو يكبّله. لم يكن تدريباً. ضربه شبيه فريزر كما يلطم كيس ملاكمة ثقيل. ضربه بتصميم وكأنه يريد إيقاظه وتهيئته لنزال ما زال صداه يرنّ في رأسه. في الأسبوع الأول عاد إلى السجن منتفخاً. لكنه استعاد قدرته بالتدريج. أربع أو خمس زيارات كل شهر. ثم فاز بنزالين على ملاكمين مبتدئين.
عندما التقى بشبيه فريزر في نزال الثأر، هاجمه الأخير بقسوة، وأدميا بعضهما. حضر ضابط السجن، ولاحظت أن ملاكمَين من أشدّ خصومه الذين هزمهم حضرا في الصفوف الأمامية. الملاكم كريم مناور كان يحملق إليه مبتسماً، والآخر لا أتذكر اسمه. كان عريفاً في الشرطة شقّ جرح قديم حاجبه.
واجه شبيه فريزر ببرود، وحمى وجهه وضلوعه جيّداً. كان ذلك في البدء فحسب، ثم ابتلعته تلك العين المحملقة المظلمة، وتضبّب تركيزه في منتصف الجولة الثانية. صرّت الحبال تحت ثقل جسميهما واندفاعاتهما وزاطت القفازات واهتزت القاعة بلكماتهما وصياح الجمهور. ترنحا وتطاير العرق والدم من وجهيهما إثر الضربات الطاحنة. في الجولة الأخيرة كان ميّتاً ولا يستطيع التنفس. لم تكن دقائق تمرّ عليه بل دهراً. صرخ جسمه متألماً ثم فقد الإحساس بالألم، لكنه عاد للتفتح مجدّداً تحت عينيه وفي كتفيه وضلوعه، وعندما قرع الجرس أخيراً أُعلن عن فوز شبيه فريزر. واساه ضابط السجن قائلاً إنه لم يتدرّب جيّداً. سيوصي بمنحه مزيداً من الوقت لهزيمة هذا القرد. لكنه شكره وهو يدفع رأسه للوراء وقال:
- لا، كافي.
عاد إلى السجن، لم يشعر بالخسارة، لم يكن أصلاً يرغب بالنزال. لكنه شعر برغبة في منح خصمه ذكرى مشرّفة. ثم نسيه تماماً. شعر أن الجميع نسيه، ولم يهمه أن يمنح فرصة أخرى لمزاولة الملاكمة. كان ملاكمه الأعظم مريضاً آنذاك. ألصق صورته على جدار زنزانته، وظل يتتبع أخباره سنة بعد أخرى حتى أطلق سراحه بعد إحدى عشرة سنة.
كان منتشياً في أول أيامه وهو يرى امرأته وابنه الذي أصبح فتياً ويشبه أمّه، لكنه شعر بالحنين لرفاق السجن. زار ناديه القديم، ووجد خصمه كريم مناور يشرف على تدريب بعض الملاكمين الشباب. كان الرجل يتطلع إليه باستغراب، وقال له وهو يضغط زنده:
- بعده جسمك قوي!
- أنا أبحث عن عمل.
- ارجع لاكم!
شعر أن الرجل يسخر منه، لكنه لم ير ذلك في عينيه، بل إن الأخير دعاه للشرب:
- تعال، خلينا نتذكر أيامنا!
تجنّب رؤية شبيه فريزر، وانشغل بالبحث عن عمل. لم يعد في داخله ما يكفي من الغضب والضغينة لتحريك الدماء في يسراه. كان حزيناً وضائعاً، فالتقى خصمه القديم مناور، وشربا في غرفة جانبية بالنادي. كان يصغي لقرقعة كرات البليارد وضحكات الشباب في الصالة المجاورة. ثرثر مناور بغلظة وشتم البعض. اكتسب طبيعة مدرّب لا يرضيه شيء. كان يغفل ثرثرته ويتطلع إلى صور ملاكمين عالميين ومحليين بما فيها صورته هو زينت الجدران. رأى ملصقاً لفيلم روكي، ثم حطت عيناه على وجه ملاكمه الأعظم. بدا فتياً وسيماً متبجّحاً بسرواله الأبيض وأسنانه اللامعة. لكنه تذكر كيف أسقطه فريزر مرة واحدة وإلى الأبد. شعر بشوكة حزن تشلّ قلبه وارتعشت يده. بعد ساعتين عزم على النهوض، مترنحاً ضغط بيسراه على المنضدة لكنه تجمَّد فجأة وسقط إلى الخلف فارتطم رأسه بالأرض.
رأيت زوجته وذويه في المشرحة، سحب المضمِّد حسن محفّة حملت جثمانه المغطى بشرشف فانهارت المرأة. أرادوا أخذ الجثمان لكن المضمّد طلب منهم استكمال الأوراق في الصباح. ناولته سيجارة دخنها بعد أن أطفأ عود الثقاب في فمه. التقط بعض ذكرياته عن الملاكم السجين. ثم أعاد سحب الجثة مرّة أخرى بناءً على رغبة ضابط السجن الذي حضر لرؤيته. كانت في عينيه نظرة صافية.
في المساء حضر ثلاثة ملاكمون أحدهم كريم مناور وعريف الشرطة، أما الثالث فلا أعرفه.
سحب المضمّد جثمانه بخفّة، وكأنه استمتع برؤية ردود فعل الآخرين. خطوا للأمام. كانت نسمة عفونة خفّفتها روائح المعقّمات في الهواء. كشف الشرشف عن النصف العلوي العاري للجثمان وتطلع مرّة أخرى لكتلة الميّت التي حافظت على تكوينها القوي ولمس خدّه المزرقّ بظاهر يده. بدا نائماً، محتقناً، أرخى قبضتيه العظيمتين، وشعرت أن كلَّ ملاكمي العالم يحيطون به، رافعينَ قبضاتهم المدسوسة في قفازاتٍ ملوَّنة، راغبين بضرب أحدهم. وقف الثلاثة الذين هزمهم هناك، صامتين، حتى تحرك أحدهم وأزاح المضمّد. انحنى على الجثّة، وحاول تحريك الجمجمة. ثم قال: هذي هي، ترقوته.. لقد ضربته وكسرتها في نزالنا سنة.. أنا متأكد!
وقال الآخر: أنا تركت به أثراً يا مناور!
ودنا من الجثة: وجهه سليم لكن ضرباتي في ضلوعه. أظن هذا أثر لكمتي!
قال المضمّد وهو ينفخ دخان سيجارته: ترقوته سليمة!
قال مناور: لا! لقد حطمتها!
وضرب بغضب على صدر الميّت المشعر. انبعثت رائحة مشروب حلوة في الهواء. في تلك اللحظة تراجع الثلاثة الى الخلف فجأة، كأنما اتفقوا على رد الفعل ذاته. كانت عينا خصمهم الميّت مفتوحتين، تحملقان بجمود.

ذو صلة