مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

حياة أخرى ملوّنة بالتقاعد الوظيفي

رغم أن الإنسان يعيش حالة من السعادة والرضى أثناء تأديته لعمله الوظيفي الذي يشعر من خلاله بتأديته دوراً ذا قيمة، فإن ذلك الشعور لا يبقى في جميع مراحل عمره المتصاعدة، وخصوصاً الأخيرة منها حيث يتم فيها إحالته إلى التقاعد عما يؤدي من عمل؛ فتدخل حياتَه طقوس ومعطيات جديدة لابد أن تولد له العديد من المنغصات وذلك بعد أن يشعر بالفراغ الكبير، وبعد أن تزداد إقامته في البيت مع أسرته، فيحتك مع أفرادها أكثر من السابق بدءاً من زوجته إلى أولاده، ويعاني من مشاكلهم ومتاعبهم ومطالبهم، وقد تهاجمه أمراض الشيخوخة فتنغص عليه حياته، لذلك لابد له من ممارسة بعض الأنشطة ليحافظ على حياته الجديدة ويملأ دواخلها بالشعور بالرضى، فالسعادة هي حالة من الشعور الداخلي المفعم بالخير العام والرضا عن الأحوال، وهي نوع من المتعة تنتج داخل النفس المفعمة بالحيوية والرغبة في الحياة التي تكون السعادة فيها بالجِدة التي تحقق المتعة وتكتسب بلاغة المعنى كما يعبر الباحث الدكتور يوسف منافيخي والمفكر سيليجمان، ويمكن للإنسان المتقاعد تحقيق ما أشارا إليه من خلال إعداد خطط يعالج فيها ظروف حياته الجديدة وكيفية عيشه فيها مالياً، ولا سيما إن انخفض دخله، وكيفية ملء الفراغ الذي سيزداد في يومه، وطريقة تعامله مع أسرته، والتواصل مع أصدقائه، وهو ما يتطلب منه البحث عن عمل يناسب سنه وهوايته، ولا يتعبه، ويختار العمل الذي يحبه ويجلب له السعادة، فإن ممارسة هذا العمل أفضل من جلوسه في البيت أو المشي في الأسواق والشوارع متسكعاً، أو في المقاهي مثرثراً أو لاعباً بالألعاب المسلية المضيعة للوقت، وأن يؤمن حاجات أهل بيته قدر طاقته، ويلاعب الصغار ويحكي لهم الحكايات الحلوة، ويسامر الكبار، ويشعرهم بدفئه وحنانه وعطفه كما أنه يملأ باقي الوقت بهواياته كممارسة الرياضة التي تناسبه والتي تضفي على جسمه الحيوية والنشاط والصحة، ويتناول الأغذية المناسبة لسنه وصحته، وينتسب إلى نادٍ يهيئ لكبار السن نشاطات مناسبة لهم، ويتابع القراءة وتثقيف نفسه بالمعلومات والمناهج التي توضح له سبل السعادة وفهم الحياة. وإذا كان له هوايات أخرى مثل قراءة الكتب وتعاطي بعض من فنون الكتابة كذلك، فإن ذلك كفيل بأن يملأ المزيد من وقته بمنجزات لا شك أنها مثمرة ومفيدة، وإذا كان بعد كل هذه الأنشطة التي يمكن له ممارستها يستطيع أن يجد لنفسه بعضاً من أوقات الفراغ، يمكنه من خلالها الترويح عن نفسه والخروج إلى الحدائق لوحده أو برفقة أحفاده، أو ممن يحب مجالستهم من أصدقائه فيتحدث إليهم ويستمع هو لأحاديثهم ويتبادل معهم الرأي في شؤون حياتهم المتعددة والمختلفة، وهذا ما يريحه ويدخل إلى نفسه الأنس والسرور. ومما يمكن له أن يؤنسه أيضاً التواصل الاجتماعي الهادف والمفيد عبر وسائل الاتصال الحديثة، ومن خلالها يختار التواصل مع من يرتاح لهم وخصوصاً مَنْ يدخلون لنفسه البهجة والتفاؤل مبتعداً بذلك عن المتشائمين الذين يتعبونه ويشيعون في نفسه القتامة والتشاؤم، ويمكن القول في سياق ذلك إن الأعمال التي تثبت ذات الإنسان المتقاعد وتسعده كالعمل التطوعي ولاسيما إذا كان لديه دخل يكفيه فيتطوع في أعمال الخير: كمساعدة اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين والمحتاجين، ومما ينظم له هذا العمل الانتساب إلى الجمعيات الخيرية التي تعمل بمنهجية في توزيع المعونات على من يستحقونها وقد يقوم بعمل تطوعي آخر كإنشاء فرق إرشادية، تساعد كبار السن على تنمية هواياتهم التي تدخل إلى قلوبهم الفرح والسرور، وتحرك قواهم الجسدية والنفسية، ومما يُحْمَد في الأعمال التطوعية مساعدة الأقرباء والأصدقاء في مشاريعهم، فإن كان المتقاعد ذا خبرة بعمل من الأعمال، فإنه يمد يد المساعدة لمن يمارس ذات اختصاصه بالتوجيه والإرشاد. وهذه الأدوار التعاونية التي يقوم بها المتقاعد تشعره بأن له دوراً في الحياة تسعده وتسعد الآخرين منه فالسعادة الحقيقية ليست إلا سعادة القدرة على المنح والبذل وإسداء الخير وإقالة العثرات كما يؤكد الدكتور فيكتور بوشيه، وعليه فإن ما سبق ذكره يعد خطوات عملية فاعلة يقوم بها المتقاعد بعد تقاعده، وإلى جانب ذلك عليه أن يغتنم الوقت الذي هو فيه، ويحصد من الحاضر خيراته، ولا يضيِّع الوقت في اجترار الماضي ومآسيه، بل يخطط لمشاريعه المستقبلية ويحضر لها ويتفاءل بالقادم، ويتوقع السعادة ويرنو إليها، ويفكر فيها، فإن ما يتوقعه الإنسان من خير سيقع إن شاء الله تعالى ويأمل بأن المستقبل سيأتي بالأحداث الطيبة والأخبار السارة المبهجة للنفس التي يتمناها، فمن كان له هدف لا يشيخ، فالهدف يُوَلِّدُ في الإنسان الطاقة الكامنة ويدفعه إلى الأمام والأهداف هي التي تحرك الإنسان وتبعث بداخله الوقود والنشاط والتحفيز وتجعله سعيداً في جميع مراحل حياته، فالماء الراكد يصبح آسناً إن لم يتحرك ويتجدد. والإنسان المتقاعد في أمس الحاجة إلى تجديد حياته ولاسيما بعد أن تخلَّص من روتين العمل الوظيفي، وانطلق يصوغ حياته كما يحب ويرضى، فينجز التغيير داخل نفسه، وجاء في القرآن الكريم (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، (الرعد:11).
والإنسان بما أوتي من قدرات يستطيع أن يغير باطنه وظاهره إذا قرر ذلك، يقول (وليم جيمس): «إن أعظم اكتشاف هو أن الإنسان قادر بكل بساطة على تغيير حياته عن طريق تجديد تفكيره».
إضافة إلى ذلك يحقق المتقاعد حياة سعيدة إذا ما أحب للآخرين ما يحب لنفسه، وهذا يدل على الأريحية التي يتصف بها، وسعة المحبة التي بين جوانحه لأهله وذويه وأحبابه، وهذا كله سيجعل مَن حوله يبادلونه حباً بحب ووداً بود وهو ما يُبعد عنه القلق والاكتئاب والحسد والحقد والانفعال والغضب. وأخيراً تحلّي الإنسان وخصوصاً المتقاعد بالركائز الإيمانية تضيف إليه فيضاً من الطمأنينة والسعادة التي تسبغ حياته بالراحة والاستقرار.

ذو صلة