بين الذعر والحماسة وجدا نفسيهما، في بطن خندقٍ على وشك الانهيار، جُنديان مَنسيان يرزحان في بركة لزجة من العرق والدماء، تماماً عند منتصف الجبهة بين الجيشين المتناحرين.
الحربُ حولهما مُستعِرةٌ مثل بركان، ما تلبث أن تخمد حتى تنفجر من جديد. الجثثُ متناثرةٌ في جميع ساحات المعركة، ولا صوت يعلو على هدير القذائف ودوي القنابل، سوى نعيق الغربان الجوعى. استيقظا في آن واحد، فَزِعَيْن ينظر كل منهما إلى الآخر. وبحذرٍ سحبا سلاحيهما، وضع الأول فوهة سلاحه في صدغ الثاني، الذي بدوره كان قد ثبّت فوهة سلاحه على ذقن الأول. مكثا لدقائق في ذات الوضعية، يشعران بالخوف رابضاً على صدريهما، ويسمعان طقطقات سلاحيهما تتوالى. عرفا في ذات الآن أنّ أسلحتهما المتشابهة ما عادت ذات فائدة، إذ نفدت الذخيرة من كليهما، ربما قبل وقت طويل من تلك اللحظة، ما اضطرَّ كُلًّا منهما لاستخدام قضيب بندقيته كسلاح حديدي. ضربا بعضهما بغضب، فسالت الدماء منهما دفّاقة، ولم يوقفهما سوى أنّ بندقيتيهما الكلاشنكوف (AK-47) قُذِفَتا بعيداً، في اتجاهين متضادين، من قوة ارتطامهما ببعضهما.
تحت السماء الرمادية التي غطّتها سحبٌ كالجبال اقتتلا، بأيديهما العارية. خنق أحدهما الآخر حتى جحظت عيناه، ثمَّ تبادلا اللكمات بوهن. كساهما اللون البنفسجي، وتورّمتْ أجسادهما من الضرب المتكرّر. وعندما نفدت قواهما الواهنة، ووصلا نقطة الانهيار، زحفا إلى بعضهما يتبادلان السباب والشتائم واللعنات والاتهامات. أخيراً رقدا جنباً إلى جنب، هادئين، يبكيان بصمت، ويشيحان بنظراتهما.
- (اللعنة على الحرب)، قال أحدهما.
- (إلى أبد الآبدين)، أضاف الآخر.
غاصا في صمتٍ طويل، تحت الضوء المنسدل من القمر، في اللحظات التي كان يهرب فيها القمر من حاجز السحب المتراكمة. كانا يرفلان في أسمال عسكرية، أحدهما كانت ثيابه صفراء كصحراء، أمّا الآخر فقد كانت بذته خضراء مبرقعة مثل غابة. على العضد الأيسر لكل منهما علم دولته التي يقاتل من أجلها، وعلى أكتافهما نياشين صدئة!.
كانا يشبهان بعضهما، مثلما تتشابه قطرتان من المياه. لم تكن ملامحهما هي التي تجمع بينهما، لكنّ شبههما نشأ من عُمْق سحيق، ربما من دواخلهما التي تلهج بأنين مكتوم من جرح غائر. الاثنان كانا يملكان عينين حزينتين، يذوب فيهما شيءٌ من التراجيديا. الاثنان كانا شخصين عاديين، يحبّان أن يعيشا الحياة حدّ التعب، لم يتمنيا الموت، حتى في أسوأ كوابيسهما، لكنّهما لا يعرفان على وجه الدقة ما الذي جاء بهما إلى حتفهما!.
- (ما اسمك؟)، سأل أحدهما أخيراً.
- (نادني (س)، فلا أحد يهتمّ، أنا نكرة على كل حال)، ردّ الآخر.
- (إذاً سأكون (ص))، قال الأول ضاحكاً.
ابتسما إلى بعضهما، ثم انفجرا ضاحكين، بعيداً عن الصراع الناشب بين وطنيهما. تذكّر (س) حصص الرياضيات والمعادلات العبثية، وهَمَّ بأن يقول شيئاً ما. في ذات اللحظة قالا معاً: (قاتل الله الرياضيات ومعادلاتها)، صمتا لبرهة، ثم قالا: (خشبة)، في ذات اللحظة. نظرا إلى بعضهما باستغراب، ثمّ ضحِكا من أعماقهما، كطفلين صغيرين، لم يعرفا من الدنيا سوى الفرح.
دوّى صوت قذيفة في البعيد، فأعادهما إلى واقعهما المرير. كان (س) مجروحاً في يده اليمنى، بينما كان (ص) يعاني من إصابة سيئة في قدمه اليسرى. ضمّد (س) جرح (ص) وهو يحكي له عن وطنه، عن المدرسة والرفاق، عن الحياة التي تركها هناك قبل أن يأتوا به إلى جبهة القتال، وكذلك فعل (ص).
سِيقَ (س) من قريتهم الصغيرة، ذات نهار قائظ من نهارات الصيف الساخنة. انتزعوه من بين ألعابه المُحبّبة، مُعَلِّلين بأنّه صار رجلاً، والرجال يموتون في سبيل قضيتهم. حشوا ذهنه بخطابات عن حبّ الوطن، عن الحرب المشتعلة وضرورة النصر فيها. أخبروه عن الأعداء ووحشيتهم، صوّروا له أنهم مفترسون بلا قلوب، شياطينٌ لعينة يجب أن تُباد وتمحى من على وجه الأرض. لم يكن (س) يهتمّ، ولم يكن في حساباته أن يقتل الناس، ليس من أجل قضية لا يعرف كنهها، وليس من أجل أيّ سبب آخر. لكنه لم يمتلك الخيار، جاؤوا به إلى معسكرات التدريب العسكريّ، علّموه كيف يحمل السلاح، وكيف يكون آخر ما يفصل أحدهم عن الصعود إلى السماء. ورغماً عنه وجد نفسه في الصفوف الأماميّة.
لم يختلف حال (ص)، إذ اقتادوه صباحاً رغم توسلات أمه المريضة، أخبروه أنّ الوطن يستحق أن نُضحّي من أجله، ولم ينسوا أن يذكروا أخاه، الجندي النبيل الذي قدّم الروح رخيصة في سبيل رخاء وطنه. لم ينتظر أحدٌ ردّه، ومن غير أن يفهم وجد نفسه في الطليعة!.
نما الليل وازداد الظلام حلكة، وهما جالسان ينتظران مصيريهما بعيون فارغة، والسماء فوقهما مُدلهمة تُذكّرهما بالمجهول الذي يتجهان إليه دفعاً. كانا يشعران بالعطش، ومعدة كل منهما تقرقر من الجوع. تشاركا ما وجدا من الزاد، واستمرّا في تحديقهما إلى الفراغ. برز القمر وغمر البسيطة بضياء دافق كمياه الأنهار، وكان بإمكانهما أن يريا بعضهما بصورة واضحة. (س) كان يحمل الرقم (11) من الكتيبة الرابعة لجيش دولته، و(ص) كان المجنّد (22) من الكتيبة الخامسة لجيش بلده. ابتسم (ص) بأسى حين فطِنَ إلى أنّهما كانا محض أرقام بين آلاف الأرقام المُقيّدة في سجلات دولتيهما، مجرد شخصين عاديَيْن قُدِّرَ لهما أن يعيشا الشتات والنسيان.
- (لكُنا جنباً إلى جنب، لو كنا في جيش واحد)، قال (ص) بعد إمعانه في التفكير.
- (في ظروف أخرى ربما كنا صديقين)، قال (س) وهو يبتسم.
- (أتعلم، أنا لم أقتل أحداً حتى اللحظة، أكتفي فقط بالهروب من مرمى الرصاص)، قال (ص).
- (أنا أيضاً لم أقتل)، قال (س)، (ولن أفعل).
ابتلع (س) ريقه، وازدرد (ص) قطرات المياه المتبقيّة، وراح كل منهما يفكّر. كانت فكرة وحيدة تحوم حولهما، تمنّيا لو التقيا في ظروف مُغايرة، في مكان بعيد، وزمان سحيق، حيث لا وجود لاختلاف بين قادة دولتيهما، ولا مساحات من الموت والبؤس تفصل بينهما.
احتضر الليل وانمحق، كما يتلاشى أثر قلم الرصاص تحت وطأة الممحاة، ولم يزَلْ الجنديان يرويان الحكايات من ماضيهما، ولوهلةٍ خُيِّل إليهما أنَّ الأمل موجود، وأن ثمّة فرصة أن يجتمعا على قيد الحياة في زمان آت. أخرج (س) كتاباً قديماً، على غلافه كُتِبَ بخطٍّ عريض: الكونت دي مونت كريستو- إسكندر دوماس.
- (يحكي عن هروب من السجن، لطالما تمنيتُ أن أستطيع الهرب من معسكرنا)، قال (س) وعيناه مُبتسمتان.
أخرج (ص) ورقةً صغيرة، فيها رسمٌ جميل لأناس في شارع مزدحم، معظمهم يبتسمون، والسماء فوقهم زرقاء صافية، ثمّ قال بلهفة:
-(أنا أحبُّ الرسم، وهذه السماء التي فوقنا أراها مليئة بالنجوم، كسماء فان جوخ في لوحته الشهيرة).
- (سأصير كاتباً، إذا لم أمُتْ هنا)، قال (س) مُتحفزاً كطفل صغير.
وفي غمرة مرحهما الطفوليّ، وأحلامهما البريئة، تناهى إلى مسامعهما زحف جنود وأصوات دبابات تحرث الأرض على مقربة منهما. تبادلا نظرات وجِلة تحكي توجسهما. لم يعرفا من أيّ تجاه سيأتي الموت مُشمِّراً ليأخذ أحدهما أو كليهما. أيقنا أنَّ أحلامهما الصغيرة ستتبخّر، وأنَّ صداقتهما لن يُكتب لها وجود، لكنّهما لم يجزعا. اتفقا في لحظة الفزع أن يُخَلِّد أحدهما الآخر الذي سيموت، وإن ماتا معاً، فسيلتقيان حتماً في مكان أفضل، حيث لا توجد صراعات واهية من أجل أسباب بلهاء، وحيث لا يوجد موت. سيرسم (ص) صديقه الجديد، وسيكتب (س) عن الروح التي تشبهه، هكذا اتفقا. لن يستطيع الموت أن يمحو ما حظيا به لليلة كاملة، ليلة وحيدة لكنّها تعدل إلفة عمر كامل!.
كانت الأصوات تتنامى، والجنديان في الخندق يتحدثان بصفاء ويضحكان. وفي تلك اللحظة الهاربة من نِسبيّة الزمن وحتمية الفناء رسم (ص) في ذهنه ألف صورة لوجه (س) المبتسم، وكتب (س) في مخيلته ألف كتاب من أجل (ص).
بعد برهة زمجر أحد الجنود من الأعلى وأشار إليهما. حوّط جندٌ كثيرون الخندق، وفي لحظات كانا تحت مرمى فوهات البنادق. هَدَرَ الرصاص وهطل إلى الخندق كشُهُبٍ لا تحصى، وانفجرت الدماء تتدفّق حمراء قانية من أحدهما، وفاضت الدموع مُنسكِبة بسخاء من الآخر.
آخر ما رآه (ص) كانت روحه التي تتبخّر إلى السماء، السماء التي كانت زرقاء ومتاهية، وملأى بالنجوم، كسماء فان جوخ التي أحَبّها. كان (ص) مبتسماً وعيناه المفتوحتان تتطلّعان إلى الأعالي. و(س) في صمته ذاك كانت روحه تنزف أكثر مما نزف جسد (ص) الممزّق. لكنّه لم يبكِ، لم يرفع رأسه، لم ينبس ببنت شفة لأبناء وطنه، الذين كانوا يهتفون سعداء بإنقاذ أخ لهم.
انتهت المعركة بفوز الجيش الذي ينتمي إليه (س)، بل إنّ الحرب كلها انتهت. انتصروا وعادوا إلى وطنهم، حيث احتفى بهم الناس. تقلّدوا الأوسمة، وصاروا ينعتون بالأبطال، وينالون من التمجيد ما عوّضهم عن سنوات الحرب والدماء والبؤس. وحده (س) شعر بالهزيمة والغربة، بألمٍ لا نهائي من جراحات لا تندمل، وبخسارة فادحة لا تُعوَّض!.