مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الذكاء الاصطناعي وزوال الكُتّـاب البشر

إذا كان باستطاعة الحاسوب أن يكتب كالإنسان.. فبم يوحي لنا ذلك عن طبيعة الإبداع البشري؟

إن حالة الشك وعدم اليقين هي التي تجعل عملية الكتابة مؤرِّقَة ومُسببة للإدمان في آن واحد، لا لأن الكُتّاب يتساءلون عمّا إذا كان هناك من يقرأ أعمالهم أو ما إذا كانوا سيجنون المال من كتاباتهم، ولكن أيضاً بسبب الطبيعة الأساسية لعملية الكتابة ذاتها. فالكتابة تنطوي على صراع اختيار افتتاحية لمقالة من بين احتمالات لا حصر لها، وتجاهل الشعور بأن الاحتمالات غير الظاهرة وغير المعلنة قد تكون هي التي تستحق أن يحتفظ الكاتب بها. ويكافح الكاتب من أجل تحديد الأفكار التي يتعين عليه تطويرها وتقديمها إلى قارئ مجهول، والخيوط التي عليه أن يتتبعها، والكلمات أو العبارات التي عليه توظيفها.
صعوبة التمييز بين المحتوى البشري والآلي ووفق تقرير لمجلة (ذا نيو ريببلك) الأمريكية، يُمْكِن لنماذج توليد اللغة مثل (شات جي بي تي) أو (بَارد) أن تنتج كمّاً كبيراً متنوعاً من المحتوى المكتوب في غضون ثوانٍ معدودات، مما يجعل من الصعب على القراء التمييز بين المحتوى الذي ينتجه البشر وذاك الذي تنتجه الآلات. ويؤدي ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في مجال الكتابة إلى طرح تساؤلات بخصوص طبيعة الإبداع البشري، والقدرة على التمييز بين الكتابة البشرية والكتابة الآلية، والخسارة المحتملة المترتبة على النوع الأخير لكل من القراء والكُتّاب إذا حلّ الذكاء الاصطناعي محل الكتابة البشرية. ويُعدُّ تأثير هذا التغيير كبيراً، إذ كان للكتابة تأثير عميق غائر على الحضارة الإنسانية والتاريخ البشري.
وتعمل النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) من خلال تحليل الأنماط في كمشيات هائلة من النصوص والتنبؤ بالكلمة التالية في الجُملة بناءً على التدريب الذي تحصل عليه. ورغم فعالية هذه المنهجية، فهي تعوِّل بقدرٍ كبير على العمليات الحسابية الرياضية ومُطابَقَة الأنماط. وعلى النقيض من ذلك، يُبدع الكُتّاب البشر أعمالهم باستلهام مصادر وتجارب وحوارات مختلفة ومتباينة، مما يشير إلى منهجية مختلفة كليّاً لفهم عملية الكتابة. وعلى الرغم من ذلك، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على استنساخ أنماط وأصوات كتابية مختلفة تتحدى وجهات النظر التقليدية حول الإبداع والأصالة، مما يثير تساؤلات حول طبيعة الذكاء والعملية الإبداعية.
وتُشير فكرة الذكاء المُوَزَّع إلى أنّ الإبداع ينطوي على تقليد أعمال الآخرين وتطويرها، مما يطمس التمايز بين الإنجاز الفني الفردي والمساهمة الجماعية. ونتيجة لذلك، هناك تحوُّل في كيفية النظر إلى الإبداع، مع التأكيد على أهمية التأثير الجماعي على الأعمال الفردية. ويطعن هذا النهج في الأفكار التقليدية عن الإبداع، ويسلط الضوء على دور الخبرات والموارد المشتركة في العملية الإبداعية.
وتثير قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج أشكال مختلفة من الكتابة، بداية من لغة التواصل اليومي وانتهاء بالمحتوى الاحترافي، تساؤلات عن تأثير ذلك على الإبداع البشري وأهمية الكتابة الأدبية. وفي حين أنه من الممكن للذكاء الاصطناعي أن يكرر المحتوى الموجود بالفعل، فهناك مخاوف بشأن قدرته على إنشاء أعمال أصلية وأصيلة وذات مغزى تعكس فهماً أعمق للعالم والتجارب الإنسانية. ومع ذلك، فإن دور الجمهور في خلق المعنى من رحم النص يشير إلى أن الاستجابة للمحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي قد تؤثر على قيمته وأهميته المُتَصَوَّرَة.
تأثير الذكاء الاصطناعي على القراء والكُتّاب
وفضلاً عن تأثير الذكاء الاصطناعي على القراء، فإن ظهوره في ميدان الكتابة والتأليف يؤثر أيضاً على الكُتّاب المحترفين والوظائف التي تتطلب الكتابة بكثافة. إن الأتمتة لها القدرة على أن تحل محل العديد من أشكال العمل الكتابي، مما يثير مخاوف عديدة بشأن مستقبل مهن الكتابة والتعبير الإبداعي. وفي حين يحتجُّ البعض بأن الأتمتة يمكن أن تُحرِّر أيادي الكُتّاب المُكبلة ببعض المهام وتفسح لهم الطريق للتركيز بقدر أكبر على المزيد من المساعي الإبداعية، يشكك آخرون في دعم الكُتّاب المبدعين داخل الاقتصاد الحديث.
ومن الأمثلة التي توضِّح كيف يمكن أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على تجربة الكُتَّاب أنْ يشعر الكاتب بالانفصال عن العمل الذي أنتجه بمساعدة الذكاء الاصطناعي بسبب الطابع الآلي الذي ينطوي عليه. وتثير هذه المسألة مخاوف بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع والعلاقة الوجدانية بين الكاتب وعمله. فضلاً عن ذلك، فإن إمكانية أن يقوِّض الذكاء الاصطناعي التجربة الإنسانية في الكتابة والتواصل تثير تساؤلات عديدة حول قيمة الكتابة وأهميتها بشكلٍ عام.
يجوز أن تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، كمعالجة اللغة الطبيعية وتعلُّم الآلة لمساعدة الكُتّاب على إنتاج المحتوى، إذ من الممكن تسخيرها للاضطلاع بمهام توليد الأفكار وتحسين القواعد النحوية. غير أن اختراق هذه الأدوات لسوق الكتابة والتأليف خلقَ تحديات تتمثل في المنافسة والأمان الوظيفي. ولا شك في أن هناك اعتبارات أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابة، إذ تُثار أسئلة عن أصالة المادة المكتوبة والسرقات الأدبية ودور الإبداع البشري في عالمٍ يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي. على المؤلفين والكتّاب التكيف مع التقنيات الجديدة والبحث عن سبل للاستفادة من الذكاء الاصطناعي للنهوض بعملياتهم الإبداعية.
إعادة النظر في تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع
وفي العموم، تطرح نشأة تكنولوجيا الكتابة بالذكاء الاصطناعي تحديات كبيرة وبالغة التعقيد، كما أن لها آثاراً مربكة على طبيعة الإبداع وعملية الكتابة ودور التعبير الإنساني في عالم متقدم تكنولوجياً. ويشير الفقدان المحتمل للمعنى والتواصل والعاطفة في الكتابة إلى الحاجة إلى إعادة النظر في تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع البشري ومستقبل الكتابة.

ذو صلة