مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

حمد الجاسر.. علّامة الجزيرة ومؤرخها

أحياناً يكون المرء غير راض عن قدره لسبب قد يتعلق بقدراته الجسمانية وطاقاته البدنية، ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى تشاء أن يكون ذلك السبب بعينه منطلقاً لسيرة حياتية استثنائية تجعل من ذلك الشخص شعلة وقَّادة بين أقرانه، وعلماً في رأسه نار ليس على صعيد وضعه الشخصي أو العائلي، وإنما على صعيد المجتمع بشكل عام وتاريخ البلاد برمتها، وهذا ما حصل للعلّامة البارز حمد الجاسر، حيث كانت نشأته في عائلة متواضعة تعيش معيشة الكفاف، وكان هو طفلاً عليلاً ضعيف البنية وغير قادر على مساعدة أبيه في مهنته كفلاح مثل بقية إخوانه، ما اضطر والده أن يدخله في (كتّاب القرية)، وكان ذلك إيذاناً بالفتح الذي ينتظره ومنطلقاً لمسيرته العلمية والأكاديمية المباركة حيث تعلم أبجدية القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، وفتحت أبواب العلوم والمعارف على مصراعيها أمام طموحه الوثاب وتطلعه البعيد.
بدايات ومحطات
النشأة لم تكن عادية وسوية، بل مرتبكة بعض الشيء لأن المولود كان عليلاً وقواه البدنية ضعيفة جداً، كان ذلك عام 1328هـ الموافق لعام 1910م، حين رأى حمد بن محمد بن جاسر النور في عائلة فلاحية بسيطة من أسرة آل جاسر التي تعود أصولها إلى الكتمة من بني علي من قبيلة حرب، وكان مسقط الرأس في قرية تراثية تعد من أقدم القرى عمرانياً كائنة في منطقة السر في عالية نجد التابعة لمركز ساجر الذي يقع في محافظة الدوادمي ويفصلها عن مركز العاصمة الرياض نحو ثلاثمئة وثلاثين كيلومتراً.
وحين ترعرع الفتى حمد قرر والده في عام 1341هـ الموافق لعام 1922م السفر إلى مدينة الرياض، ورأى أنه من الصعب اصطحاب ولده العليل حمد معه، فأودعه عند أحد أقربائه وهو من طلبة العلم اسمه عبدالعزيز بن فايز، وكانت هذه فرصة إضافية عززت قدراته العلمية وملكاته المعرفية وشرعت أمامه بوابة تعلم مبادئ العلوم الدينية وبالخصوص علوم الفقه والتوحيد، وشاءت الأقدار أن يتوفى أبوه وهو لم يزل غراً طري العود، فكفله جده لأمه علي بن عبدالله بن سالم وكان الجد إماماً لمسجد قرية البرود، فسنحت له الفرصة نتيجة نبوغه ورشاد عقله وحسن سلوكه أن يساعد جده في إمامة المسجد، ثم صار معلماً لفتيان القرية وبرز كأحد الوجهاء فيها، وقد ذاع صيته في الآفاق حتى تم انتدابه مرشداً لفخذ من قبيلة عتيبة تدعى الحَوَاما من النُّفَعَة من بَرْقا وهو في مقتبل عمره، وراح يصلي بهم ويعلمهم أساسيات الشريعة الإسلامية وعلوم الدين الحنيف، حتى صار جزءاً من نسيجهم الاجتماعي يرتحل معهم في البادية حيثما ارتحلوا.
انتقالة نوعية
انتقل حمد الجاسر في أواخر عام 1346هـ الموافق لعام 1928م إلى مدينة الرياض، واستقر فيها من أجل مواصلة شغفه بطلب العلوم والمعارف، فدرس قواعد اللغة العربية ونحوها، وأتقن متن (الأجرومية) لمحمد بن محمد بن آجروم الصنهاجي، وكذلك منظومة (ملحة الإعراب) للشيخ القاسم بن علي الحريري البصري، إضافة إلى بعض الكتب المهمة في الفقه وأصول الفقه، وما لبث أن ترك مدينة الرياض قاصداً أم القرى مكة المكرمة حيث التحق بالمعهد العلمي السعودي الذي يعد أول مدرسة نظامية نشأت في عهد الدولة السعودية المباركة، وكان الجاسر يشار له بالبنان لنبوغه وألمعيته، وقد أسندت له من فرط تميزه إمامة مسجد أبي قبيس في مكة المكرمة، وقام عام 1353هـ الموافق لعام 1934م برحلات علمية وتجارية إلى منطقة عسير، كما قصد مدينة أبها ومدينة الخميس.
وفي نفس العام أنهى مرحلة الدراسة في المعهد الإسلامي السعودي متخصصاً في القضاء الشرعي ليتحول بعدها إلى مضمار الخدمة وتوظيف قدراته وطاقاته في خدمة البلد، فعمل أستاذاً في ثانوية ينبع مدة أربع سنوات أصبح خلالها مديراً للمدرسة، بعدها انتقل إلى سلك القضاء حيث تخصصه وأصبح قاضياً في مدينة ضبا الكائنة في شمال الحجاز، ورغم إتمامه الدراسة في المعهد الإسلامي إلّا أن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد كون تطلعه المعرفي ليس له حدود، فكان دائماً تواقاً لكسب المزيد من العلوم والمعارف إلى أن جاءته الفرصة المواتية لإكمال الدراسة في كلية الآداب جامعة القاهرة، فسافر إلى هناك عام 1358هـ 1939م يحدوه شوق كبير لمواصلة مشواره العلمي.
لكن طالب العلم حمد الجاسر لم يكن يعلم بما خبأته الأقدار حيث قرعت الحرب العالمية الثانية طبولها، وحال هذا الحدث الجلل دون مواصلة طموحه، وأصبح هذا الظرف القاهر مانعاً له في إنهاء دراسته في تلك الكلية، لأن البعثة الأكاديمية السعودية أعيدت من القاهرة للبلاد، وعند عودته رجع إلى مهنة التدريس وعمل أستاذاً في مناطق عديدة من المملكة العربية السعودية، وقد شغل خلال ذلك عدة مناصب مهمة في الحقل التربوي منها: رئيس مراقبة التعليم في مدينة الظهران، وبعدها مديراً للتعليم في نجد عام 1369هـ، وكان أول مدير لكليتي الشريعة واللغة العربية في مدينة الرياض، وهاتان الكليتان كانتا النواة الفعلية لإنشاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
خطوط السيرة
يعد العلّامة الجليل حمد الجاسر -يرحمه الله- أحد أبرز علماء شبه الجزيرة العربية المعاصرين، إذ برع في مجالات علمية عديدة وهو باحث حصيف ونسّابة قدير وإعلامي سعودي كبير يشار له بالبنان، وقد عرف عنه اهتمامه بعلوم اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا وعلم الأنساب، لذا فهو عالم موسوعي أجاد في جميع الحقول المعرفية التي عمل بها، وقد كان عضواً فاعلاً في أكثر من مجمع علمي عربي وإسلامي، منها: مجمع اللغة العربية في القاهرة، والمجمع العلمي العراقي في بغداد، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في عمان، وعضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية في دمشق، ومجمع اللغة العربية الأردني في عمّان، والمجمع العلمي العربي الهندي في جامعة عليكرة الإسلامية.
لقد كان الجاسر دؤوباً ومتميزاً في كافة مجالات عمله، وقد وضع بصمته الخاصة بها، ففي قطاع التعليم، على سبيل المثال، كان أستاذاً جهبذاً، وفي مجال القوة القضائية كان قاضياً عادلاً ومنصفاً سعى إلى تثبيت سيادة القانون وتحقيق العدالة، وفي مجال الصحافة والنشر كان صحافياً مرموقاً استطاع أن يرسخ القيم المهنية والمبادئ السامية، وقد أنشأ خلال مسيرته المهنية مؤسسة اليمامة الصحفية التي أصدرت مجلة (اليمامة)، وهي أول مجلة صدرت في مدينة الرياض عام 1952م، تلتها جريدة (الرياض) في عام 1965م وبعدها مجلة (العرب)، وهي مجلة فصلية متخصصة في تاريخ وآداب شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى ذلك قام حمد الجاسر بإنشاء أول دار للطباعة في نجد في عام 1955م، كما أنشأ دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر عام 1966م.
ولا يختلف الباحثون والمهتمون بالحركة الثقافية العربية المعاصرة على أن العلّامة الجاسر قد ساهم بشكل فاعل في تعزيز وتفعيل مسارات الحركة الثقافية في شبه الجزيرة العربية والعالم العربي بشكل عام، ومن طرف غير بعيد يعد الجاسر مؤرخاً أكاديمياً لتاريخ وطنه وأمته، وهو في ذات الوقت جغرافي بارع وعلاّمة موسوعي استطاع أن يؤسس نهضة فكرية معرفية ثقافية في المملكة العربية السعودية، وقد ترك إرثاً علمياً كبيراً بعد أن وافته المنية في شهر رجب عام 1421هـ الموافق 14 أيلول/ سبتمبر عام 2000م عن عمر ناهر التسعين عاماً، ولقد أثرى الجاسر المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والكتب التي تغطي حقولاً متنوعة من المعرفة الإنسانية كالمصورات الجغرافية والتاريخية، وكتباً عديدة في أدب الرحلات، ناهيك عن كتب السيرة وطبعات نقدية للموروث التراثي المهم عبر رحلته المعرفية الطويلة.
أما الحديث المفصل عن مؤلفاته وكتبه فإنه يحتاج إلى تصنيف للحقول المعرفية التي كتب وساهم في تنشيطها وتطويرها وهذا ما يطول الحديث عنه، كما أنه كان ينشر بشكل مستمر العديد من المقالات في الصحف والمجلات العربية تتناول موضوعات متنوعة، وبالذات ما يتعلق بالمواضيع التاريخية والجغرافية وتحليل الكتب المخطوطة ووصفها، إضافة إلى نقد المؤلفات والمطبوعات الحديثة، ويمكننا الإشارة إلى أنه قام بإنشاء مكتبة لبيع الكتب هي مكتبة العرب أثناء إدارته للتعليم في نجد، وتعنى هذه المكتبة التي كانت تحت إشرافه بعرض المؤلفات الحديثة وهي الأولى من نوعها في المملكة، كما لا يمكن التغاضي عن إسهاماته الكبيرة والعميقة في تحديد إستراتيجيات مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي جنباً إلى جنب مع مؤسسها أحمد زكي يماني وزير النفط السعودي الأسبق، وكان العلّامة حمد الجاسر عضواً بارزاً فيها ومؤسساً لمجلسها الاستشاري الدولي، وجدير بالذكر أنه حاز على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب.
نبوغ وتواضع
لقد كان أسلوب الكتابة عند العلّامة حمد الجاسر لافتاً بقدر المستوى الرفيع للمحتوى المعرفي الذي تضمنته كتبه في جميع المجالات العلمية والأكاديمية والأدبية التي كتب فيها، وقد اعتمد أسلوب السهل الممتنع وابتعد عن التكلف والتصنع، مستخدماً التراكيب السهلة واللغة السلسة لأن غايته الأساسية التعليم والإفهام وإيصال المعلومة المطلوبة، ولم يتخل عن عنصر التشويق من أجل جذب القارئ وتشويقه خصوصاً عند تدوينه لرحلاته الكثيرة ومشاهداته المتنوعة، وقد تطرق الدكتور محمد رجب البيومي إلى أسلوب كتابة الجاسر قائلاً: (وإذا كانت كتب الجغرافية الآن في المدارس والكليات تحمل بعض المنفّرات من قراءتها لأسلوبها العلمي الجاف، الذي يقتصر على سرد التضاريس وأحوال المناخ ومساحة الأرض، دون بسط تاريخي شاف لما يتحدث عنه الباحث، فإن الأستاذ حمد قد رجع في حديثه الجغرافي إلى كتب الأدب كما رجع إلى كتب تقويم البلدان، فجاء حديثه عن الأمكنة مؤيّداً بالشواهد الشعرية والأحداث التاريخية، وقارئه سعيد جدّ السعادة حين يجد أسلوب التدوين الجغرافي قد انتقل من حال إلى حال).
ولم يكن نبوغ العلّامة حمد الجاسر مقتصراً على الجانب الفكري والمعرفي أو الكتابة بأسلوب نثري رفيع المستوى فحسب، بل كان له نصيب مرموق في الشعر العربي كذلك، وقد ترك فيما تركه من إرث ثقافي كبير العديد من القصائد منها قصيدته الشهيرة في رثاء شيخه محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وذلك عام 1389هـ/1969م، وقد تكفل بنشرها سعد بن عبدالعزيز الرويشد. وقد تناول تجاربه الشعرية العديد من النقاد وأساتذة اللغة العربية العرب، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، رأي الناقد العراقي الأستاذ صبحي البصام في شاعرية حمد الجاسر حيث قال: (حمد الجاسر شاعر مجيد يدلني على ذلك قصيدة كافية ألقاها ببغداد، كانت من غرر الشعر بذّ فيها الشعراء جميعاً، ثم تلتها قصيدة للجواهري). بيد أن هذه الشهادة الكبيرة لم تضع العلّامة الكبير موضع الغرور، بل رد عليها بكل تواضع قائلاً: (أما وصفي بالشاعرية فهذا غير صحيح، لست شاعراً وكنت نظاماً في أول الأمر، ولإدراكي بأنني لم أخلق شاعراً تركت النظم).

ذو صلة