مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الشعر وفلسفة الحياة

ما هي فلسفتنا في فهم الحياة؟ هل الحياة جميلة أم قبيحة؟
لماذا يسخطُ الإنسانُ على الحياة، وفي الوقت نفسه يكره الموتَ والرحيلَ عنها؟
لماذا يتعذّب الإنسانُ في الدنيا؟ وهل العذابُ شرٌ أم خيرٌ؟
وماذا قال الشعراء عن الحياة؟
قال الله تعالى:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (سورة الحديد).
الدنيا هي عالمُ الأحياءِ، ومنهم الإنسان، يعيشون على كوكبٍ صغيرٍ لا يكادُ يميّز في كونٍ واسعٍ وعظيم، هذا الكوكب اسمه الأرض. الحياةُ هي أسلوبُ العيشِ الفكري والجسدي في الدنيا وما يؤثّرُ به من المحيطِ الخارجي. أغلبُ الناسِ، ومنهم الشعراء والحكماء والعلماء وحتى الأتقياء؛ ترى الحياةَ صعبةً وقاسيةً وفيها من الألم الكثير، قليلةَ المباهج، غدارة، وتقودُ إلى الفسقِ والفقرِ واللهوِ. خلق الله تعالى الأرض عبر ملايين السنين لتكون صالحة لعيش الإنسان، جميلة في بنائها، ثرية في مكوّناتها، عظيمة في خلقها، وفيها من الإمكانات التي ترفدُ الإنسان بكلّ مقوّمات التطوير والإبداع والاختراع حتّى النفوذ إلى أعماق الكون. وهيّأه عقائديّاً قبل خلقه، يوم أشهده على التوحيد، وجعل التوحيد في الفطرة، كما قال الله تعالى:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (سورة الأعراف).
إذن، الحياة كما أردها الله تعالى جميلة، سعيدة، ثرية، عادلة، متكافلة، يُعبد فيها الله عز وجل وتكون مزرعة إلى الآخرة والحاصل هو الجنان. هل تحقق هذا؟ أم تحقّق العكس؟
الإنسان بما يملك من غرائز يتلاعب بها الشيطان أفسدَ في الأرضِ وسفك الدمَ ونأى عن العقل، وبعدها رأى بأنّ الحياة شرٌ وفسادٌ وغدرٌ وظلمٌ حتّى جعل هذه المآسي دليلاً على عدم وجود خالقٍ للكون.
هناك قسمٌ من الحياةِ من صنع الإنسانِ وقسمٌ من صنعِ السماء. فالاختيارُ فيها واضحٌ ومرهونٌ بفكرِ الإنسانِ وقدراتهِ واهدافهِ، وفيها إجبارٌ لعمل ما أو تعرضٌ لأمرٍ ليس للإنسانِ فيه قرارٌ أو خيارٌ في وقوعه. الولادةُ والموتُ ليس للإنسانِ فيهما قرارُ أو اختيار، لكنّ اللبس والشراب فيهما اختيار. الاختيارُ قد يتأثرُ بعواملٍ خارجية. حريةُ الاعتقاد قد تتأثر بمعتقدِ الأهلِ أو المجتمع. وحريةُ اختيار الدراسةِ قد تتأثر بالوضعِ المادي والاجتماعي.
أهم ما يؤثّر على حياةِ الإنسانِ هو الغرائزِ، والتي تقوده بصورةٍ قد تكون كاملةً حتّى تضعف الغرائز أو تنعدم عند تقدم العمر. أهم الغرائز التي تضعف عند الكبر هي الجنسُ والطموحُ والرغبةُ في العيشِ. العقلُ والغرائزُ في صراع مستمرٍ، معظم الناسِ تقودُ الغرائزُ عقولهم عند الشبابِ، ويقودُ العقلُ الغرائزَ عندما تضعفُ، ويزداد تأثيره عند تقدمِ العمر.
وعن هذا الصراع كتبتُ في إحدى قصائدي:
حملتُ المنى، والبالُ حال المجبرِ
وطلتُ الهوى فحشاً بما لم يُنْكرِ
فؤادي شجىً للعقلِ باتَ معاتباً
لكثرِ المعاصي والنُهى لم ينْهرِ
لقد فِقْت بالإصرار أعظم قوّةٍ
ولم تكبحِ القلبَ الذي لم يصْبرِ
فمثلي مدانٌ دون شكٍّ وإنّنا
كلانا بخسرانٍ وحالٍ أعورِ
أجابَ النهى شكواك بعضُ تعذّرٍ
فكلّ الخطايا من فؤادٍ أعثرِ
هناك أمورٌ كثيرةٌ تحدث في حياة الإنسانِ ليس له دخلٌ فيها، مثل متطلّبات الحياةِ وتأثير المحيطِ والمجتمعِ وتدخل السماء. كثيرٌ من الألمِ والمرضِ ليس للإنسانِ فيه أيّ دورٍ، ولكن حدثت بسبب العوامل الخارجية. في الحياةِ فتراتٌ تسعدُ الإنسانَ وفتراتٌ تحزنُ الإنسانَ. السعادةُ والحزنُ نسبيان ومختلفان عند الناسِ، ما تراه حزيناً يراه البعضُ سعادة. كما هو الجمالُ والقبح، نسبيان. سمُّ الأفعى مفيدٌ ومضرٌّ، مفيدٌ للأفعى ومضرٌّ للضحية. ليس هناك جمالٌ مطلقٌ أو قبح مطلق. فهل الحياة جميلةٌ أم قبيحة؟
إنها جميلةٌ وقبيحةٌ في الوقت نفسه، هذا ما يراه الناسُ، وعند معظمهِم قبحها أعظم من جمالها. لكنّ الحياة جميلة وليست قبيحة في نظري ونظر من يؤمنُ بأنّ القبحَ هو جمالٌ في ذاته. لقد أمر الله تعالى الإنسان أن يتذكّر نعمه التي لا حدود لها: (وَأَمَّا ‌بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (سورة الضحى)، لكي ينسى ابتلاءات الحياة وقسوتها. وقلت في إحدى القصائدِ:
نسيت نعيماً في ربانا آيةً
وعشت زماني شاكياً لم أقنعِ
تعانقني الآلاءُ شمساً في الضحى
وما هوَ أخفى فاق وسعَ الأوسعِ
يقصّرُ شكري في نعيمٍ ظاهرٍ
ويعزفُ لو طلت الخفيْ بالأذرعِ
الألمُ قبحٌ، ولكن بدون الألمِ لم تتطورِ الحياةُ ويرتقِ العيشُ والفكرُ والإبداع. فهو جميلٌ بذاته. القرعُ المرّ قبيحٌ في مرارتهِ، لكنّه مفيدٌ لداءِ السكري. الفقرُ والمرضُ وظروفُ الحياةِ الصعبةِ التي لا دخلَ للإنسانِ فيها قبيحةٌ في الظاهرِ لكنّها جميلة في ذاتها.
كلّ ما نراه قبيحاً سببه السماء هو في ذاتهِ خيرٌ وجمالٌ. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). (سورة البقرة)
وقلت في المعنى نفسه هذه الأبيات:
فكلّ عبدٍ إلى الرحمنِ مرجعه
مهما تطول بنا الأعمارُ بنيانا
تأتي المصائبُ للعبّادِ مكرمة
والأجرُ كان الرضا روضاً وإحسانا
الإنسانُ المؤمنُ بالله يرى الابتلاءَ امتحاناً وتمحيصاً وكفارةً لذنوبه، ويكون للكافر موعظة وهداية للسماء: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (سورة الأنعام).
لا يتذكر الإنسانُ العيشَ الجميل والسعيد كتذكّره للعيش القبيح والحزين. فيطغى القبحُ والحزنُ على فكر الإنسان. ولكن في الواقع لو جلسَ الإنسانُ وبدأ بتعداد أيّام الخيرِ والسعادةِ وقارنها بعدد أيّام الحزنِ والفقرِ والألمِ لوجد بأنّ الأولى أضعاف الثانية، فيعملُ الشيطان على إنماء الثانية في نفسِ الإنسانِ ليزيده عذاباً وشقاءً وتعاسةً: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
الانطباع العام عند الشعراء هو قباحة الدنيا وقسوتها وغدرها، لذلك كثر شعر الشكوى والرثاء والتذمر من الدنيا، حتى لو كان الأسى سببه الإنسان. هناك شعر الموعظة الذي يذكر مساوئ الحياة لتذكير الناس بأنها دار فناء وأن يعملوا إلى الحياة الآخرة. والشعراء أيضاً جعلوا من الليل عنوان اليأس والمرض والمعاناة، فيتطلعون إلى الفجر للخلاص من الليل، ولا يذكرون الليل بالخير والجمالِ إلّا قليل منهم.
وهذا الانطباع ما أشاره له أكثر الشعراء قبل الإسلام وبعد نزول الوحي.
فقال ابن الشبل البغدادي:
صحة المرء للسّقام طريقٌ
وطريق الفناء هذا البقاء
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا
نت ولا كان أخذها والعطاء
وقال محمود سامي البارودي:
أُتْرُك الدُّنْيا فَلستَ تَرَى
صاحباً في الْوُدِّ لمْ يَخُنِ
واجْتَنب منْ لا تُشاكلُهُ
تنْجُ منْ غدْرٍ ومنْ غَبَنِ
وقد روي عن الإمام الشافعي قوله:
محن الزمان كثيرةٌ لا تنقضي
وسرورها يأتيك كالأعياد
وقال أبو العتاهية في إحدى قصائده:
لعمْركَ، ما الدّنيا بدارِ بقَاءِ
كفَاكَ بدارِ المَوْتِ دارَ فَنَاءِ
فلا تعشَقِ الدّنْيا، أُخيَّ، فإنّما
يُرَى عاشِقُ الدّنْيا بجُهْدِ بَلاءِ
حلاوَتُها ممزوجَةٌ بمرارَةٍ
وراحتُها ممْزُوجَةٌ بعَنَاء
وكثيرٌ من الشعراء قد ذمّوا الحياة في قصائدهم، ومنهم ابن الرومي الذي قال في إحدى قصائدهِ:
ألا إنما الدنيا كجيفةِ مَيْتةٍ
وطُلّابها مثل الكلاب النواهِسِ
وأعظمهمْ ذمّاً لها وأشدُّهم
بها شعفاً قوم طوالُ القلانِسِ
وقول المعري في وصف وذم الدُّنيا:
أصاح هي الدُّنيا تُشابهُ مَيتةً
ونحنُ حواليها الكلابُ النَّوابحُ
فمن ظلَّ مِنها آكلاً فهو خاسرٌ
ومَن عادَ عَنها ساغباً فهو رَابح
أما المتنبي فقال عن الحياة:
نَبْكي على الدُّنْيا وما من معشَرٍ
جمعتهمُ الدُّنيا فلمْ يتفرَّقُوا
مِن كُلِّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشهِ
حتى ثَوى فحواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خرسٌ إذا نودوا كَأنْ لَمْ يعلمُوا
أنَّ الكلامَ لهمْ حلالٌ مُطلَقُ
فالموتُ آتٍ والنُّفوسُ نَفائسٌ
والمُسْتَعِزُّ بما لديهِ الأحمَقُ
وقال أحمد شوقي في إحدى قصائده:
وَإِذا نَظَرتَ إِلى الحَياةِ وَجَدتَها
عُرساً أُقيمَ عَلى جَوانِبِ مَأتَمِ
وفي نفس السياق قال أبو نواس:
وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ
وذو نسبٍ في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفت
له عن عدوٍ في ثياب صديق
وقال المتنبي في اليأس من نيل المطالب، حتى لو عشقت الدنيا:
وكلٌ يعشق الدنيا قديماً
ولكن لا سبيل إلى الوصول
وكمثل باقي الشعراء فقد شكوت من الدنيا ومن أهلها ومن كثرة النفاق فقلت:
وأكثرُ الناسِ تحيا خلف أقنعةٍ
في كلّ يوم لها شكلٌ بلا دينِ
سيكشفُ اللهُ حرباءً مزركشةً
لكلّ لونٍ لها صبغٌ لتلوينِ
معادنُ الناسِ أسرارٌ وتكشفها
جوانبُ الدهرِ بين الحينِ والحينِ
كانت سنة 2023 أكثر سنة في حياتي خوفاً وألماً ومرارةً، لم أعش مثلها أبداً، كانت سنة الدموع. فبدأت بكتابة قصيدة عن مدى قبحِ الحياة وهذه السنة، قلت فيها:
مضى وقتُ نحسٍ هدّ كل معالمي
أراني نجوماً في الضحى والغمائمِ
به المفزعات المؤلمات شواهدٌ
وباتت جفوني في قذى وتخاصمِ
تملّكني ضرّ يسوق بمنحري
إلى مذبحٍ يدوي بثقلِ التزاحمِ
وقلت أيضاً:
توارى عن الدنيا ربيعٌ مزهرٌ
وغادرَ عنّي دهرُ نحس مفزعِ
فيا ربِّ فاجعلْ قادم العام الذي
تعالى هلالاً بان فوق الأسطعِ
جميلاً بما تعطي وفيه المرتجى
وفيه الشفا من كلّ غمّ مروعِ
ولكن بعد هذه الأبيات وقفتُ وقلت هل كان الألم والخوف والترقب فعلاً عيشاً قبيحاً؟ وعند مراجعتي وجدته والله من أجمل أيّام حياتي كلّها، وأعظم جمال فيها كان قربي الكبير من الله تعالى والتمسّك الذي لم أعرفه بالدعاء والصلاة والأمل والرجاء والإبداع حتى ضعفت عيوني من البكاء خشوعاً، وقد كتبت أكثر من ثلاثين قصيدة أرفقتها في الجزء الثاني من ديواني نفحات من الرسالة، وسميت هذا الجزء (ونجيناه من الغم). وبدأت أكتبُ عن سنة المحنة، وقلت إنّه عام خيرٍ:
مضى عامُ خيرٍ نارَ كلّ معالمي
بنورٍ وقد زاحَ الدجى عن عوالمي
تقرّبت للرحمن قدرَ وجودنا
ونالت به الآمالُ حسنَ المعالمِ
عبدتُ إلهي والمواجعُ تربتي
وبلّلتُ محرابي بدمعِ المآتمِ
وقمتُ اشتياقًا في مخافةِ مذنبٍ
وطلتُ سجودي في تعلّقِ نادمِ
وساقَ ليلي من عيوني غفوةً
ودقّ فؤادي في أسىً متراكمِ
فصحتُ بصوت الواثقين مناجيًا
أيا كاشفَ الغمِّ القتول بصارمِ
تمنّنْ على عبدٍ طريحِ مواجعٍ
بدفع الرزايا والردى والمغارمِ
فجاءت لي البشرى شفاءً ورحمةً
وفوق الشفا تقوىً وخيرَ المغانمِ
تناءى بفوزٍ عامُ خيرٍ ومحنةٍ
به اللهُ أهلاً للعطا المتعاظمِ
مضى عامُ نحسٍ في مواجعه النجا
وقد رسم الدنيا كفيض الغمائمِ
رغم ما في الحياة من ألمٍ وتعاسةٍ، ويراها الإنسان قبحاً، تراه متمسّكاً بالحياة ويخافُ الموتَ إلا القليل الذين إمّا طغى عليهم الاكتئابُ واليأسُ وعدمُ التحمّل وإمّا وصل بهم الأيمانُ إلى درجاتٍ عاليةٍ، ويحبون لقاء الله تعالى.
ويبقى الأمل جوهر الحياة، فلا حياة بدون أمل وبخاصة في المصائب:
ومن لنا غير ربّ الكون معتمد
هو المفرّج عند اليأس عن بأسِ
في القبح وفي الجمالِ، في الفقرِ وفي الثراءِ، في العلمِ وفي الجهلِ، في الإيمان وفي الكفر، حاكم أو محكوم؛ يبقى الأنسانُ ناقصاً والكمالُ لله تعالى:
مهما اجتهدنا سيبقى النقصُ سيمتنا
إنّ الكمال إلى الرحمن منسوبُ
وقد لخّصتُ الحياةَ بهذا البيت:
أولادُ آدم للحياةِ كصورةٍ
فيها الصراعُ إلى القيامةِ ماثل
وأختم هذه المقالة بهذه القصيدة التي تبين فلسفتي في الحياة، وما هي نظرتي لها؟ وكيف أستفيد منها وأسعدُ فيها؟
ما الأرضُ إلَا جنّة
إنّ الحياة وإن تهاوتْ آسرة
فيها المفاتنُ والغصونُ المزهرة
فيها الجمالُ بكلّ خلقٍ بنيةٌ
للعينِ واضحةٌ كشمسٍ نيّرة
تزهو الخوالجُ بالحياةِ وعطرها
زهوَ العرائسِ بالحليْ والأبخرة
والعاشقون عن العيونِ تباعدوا
أملَ التلاقي في ليالٍ مقمرة
هي لوحةٌ رُسمت برحمةِ واهبٍ
أعطى فكانت في الثراء الكوثرة
تتنافسُ الألوانُ عند بهائها
فكأنّها كفٌّ بأجملِ أسورة
أجزاؤها من كلّ لونٍ آيةٌ
كانت رياضاً أرضها أو مُقفرة
فيها التناسقُ لم يكنْ متولّدًا
من صدفةٍ عند النهى مُتعذّرة
إن لم ترَ العينُ الضياءَ لعجزهِا
فالنورُ تدركُه القلوبُ المبصرة
قلمٌ بها نخلُ العراقِ وسعفهُ
ورقٌ وماءُ الرافدين المحبرة
كتبوا بها أهلُ التقاةِ مواعظاً
ومن الدمى في كلّ يومٍ مأثرة
كتبوا بها الأدباءُ أروعَ قصّةٍ
والشعرَ قد كتبوا كرونقِ جوهرة
العلمُ فيها كالبحور توسّعاً
والخلقُ فيها للعلى متطوّرة
هي جنّةٌ للعالمين متاحةٌ
فيها المغانمُ والحقولُ المثمرة
فيها المودّةُ للجوارحِ متعةٌ
والعشقُ فيها والنساءُ الآسرة
اللهُ قد خلقَ الحياةَ جميلةً
والخيرُ فيها للنفوسِ الخيّرة
فانظرْ جمالاً في البريّة باذخاً
واغمضْ عيونك عن قبائح مسترة
وانظرْ إلى الدنيا بعينِ تفاؤلٍ
فاللهُ يرزقُ بعد عُسرٍ ميسرة
عشْ يومَك الفاني بكسوةِ زارعٍ
فالأرضُ خصبٌ والغمائمُ ممطرة
وازرعْ بما شئتَ الحياةَ فإنها
واللهِ مزرعةٌ لدارِ الآخرة
يبنون دنيا للمكوثِ وذاتها
ما كانتِ السُكنى ولكنْ معبرة
هي رحلةٌ فيها أسى وسعادةٌ
بين الولادةِ والمنى والمقبرة
فيها الغِنى والفقرُ فيها والردى
والناسُ كرٌّ في الحياةِ ومدبرة
ما الأرضُ إلَا جنّة ومياهها
لكنْ غدت بيدِ الورى مُستعمَرة
قد أفسدوا الدنيا وقالوا إنّها
غدّارةٌ في كفّها متصحّرة
ضنْكٌ معيشتهمْ كأن لم يغتنوا
رغم الثرى جمعوا ورغم المقدرة
رغم القناعِ لهم وجوهٌ أنْبسٌ
ولهم وجوهٌ في القيامةِ مسفرة
وعلى الوجوه فللفؤادِ ملامحٌ
تخفي ضباباً نار غلّ مسْعرة
قد فاز مَنْ عاشَ الحياة وقد نهى
عن كلّ فعلٍ فاسدٍ أو منكرة
فاطلبْ نعيماً في الحياةِ ورفعةً
وابغِ النجاةَ من اللظى والمغفرة
إن كنت تسألُ عن عظيمِ شمائلٍ
فالعفو أعظمُ شيمة في المقدرة
شرُّ العباد إذا رجوت سماحةً
أعطاك ظهراً بعد طولِ المعذرة
خيرُ العبادِ إذا أسأت مقامه
يأتيك مبتسماً بصدقِ المغْفرة

ذو صلة