مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

محمود درويش سارداً

حينما يكتب الشاعر سرديته الممغنظة بإيقاع الشعر، فإن المردود دائماً منفتح على المجاز وعلى اتساع المعنى وتفجير الأسئلة دون إجابات، لتكون تلك الإجابات هي المسامير المنغرزة في بدن الحقيقة/ القضية التي تسعى تلك اليوميات الساردة لتكثيف جرعة تعاطيها وإدرار مردودها النفسي والمعنوي في الوعي العام الذي يؤدي إليه الوعي الفردي/ الرائي، والمحاكي/ المتمثل تماماً لما يحدث على أرض واقع مرير في ظل احتلال غاشم لا يتوقف عن دحض كل سبل الحياة على تلك الأرض، في محاولة لتكميم الأفواه.
(عندما تسكت المدافع، من حقي أن أشعر بالجوع).. تبدو هذه العبارة البليغة مفتاحاً سردياً مهمّاً، وملهماً في (يوميات الحزن العادي) للشاعر الفلسطيني العربي (محمود درويش)، الذي تحوَّل لسارد بلغة الحوار المفقود، حيث تبدو التفاصيل دائماً ابنة للحكاية، وابنة للسرد، سواء بمفرداتها الدالة والصريحة، أو بعباراتها الطويلة أو المختزلة، أو بحواراتها الدالة على الاشتباك مع الواقع والتورط فيه والتطلع إلى آفاق أكثر اتساعاً وشمولية وفلسفة.
العناوين
ذلك الإحساس المرير الذي تقود إليه تلك اليوميات بتتابع عناوينها الرامزة والشاعرة والساخرة، والطافحة بالمرارة والصدمة فيما بين: (القمر لم يسقط في البئر)، و(الوطن بين الذاكرة والحقبة)، و(يوميات الحزن العادي)، و(من يقتل خمسين عربياً يخسر قرشاً)، و(الفرح.. عندما يخون!)، و(تقاسيم على سورة القدس)، و(صمت من أجل غزة)، و(ذاهب إلى عالم غريب عن العالم)، و(ذاهب إلى الجملة العربية في الخامس عشر من أيار)، فما تحمله العناوين من شحنات متدفقة متباينة يفتح بوابات لشتى المشاعر وجولات مع الزمان/ التاريخ والآني، والمكان والشعور بالتوحد مع الخيبة والانكسار، وما تفرزه من قدرة على ربط تلك السلسلة من الانكسارات/ اليوميات على شرف معنى كلمة (الوطن) التي تتردد لفظيّاً صريحاً في موضعين، وضمنياً في موضعين هما (القدس، وغزة)، وإشارياً فيما عدا ذلك من عناوين يبدو فيها العالم غريباً بوضعيته تحت الاحتلال، وخارج الاحتلال، في تشابك ربما كان مقصوداً لإحداث تلك الربكة التي تثيرها شحنة العواطف المكبوتة التي تريد أن تندلق على الورق لتصنع هذه الصرخة/ الإحالة إلى الواقع.
ما يعمق من الدور الذي تقوم به الكتابة في تجسيد المأساة وتصديرها، ربما كان تصويراً غير مباشر ينصرف عن لحظة آنية إلى لحظات منفلتة من عمر قضية/ تاريخ ربما عبرت عنه اليوميات - بانسلاخها من قبضة الشاعر إلى قبضة المدوِّن - في هذه الحوارية الخالصة الممتدة التي تقدم بها اليوميات في (القمر لم يسقط في البئر)، بما للعنوان من إطلالة شعرية يسقطها النص على مأساة حقيقية بغياب ذلك الضوء المنبسط على البئر/ مصدر الحياة أو ما يمثله في ضمير الشخصيات التي تكتب بمدادها يوميات حزنها، وتتعلق بتلك الوشائج/ الروابط/ الآمال في إحياء ذكرى المكان وكينونته:
-ماذا تفعل يا أبي؟
- أبحث عن قلبي الذي وقع في تلك الليلة.
- وهل تجده هنا؟
- أين أجده إذن! أنحني على الأرض وألتقطه حبات حبات كما تجمع الفلاحات في تشرين حبات الزيتون.
- ولكنك تلتقط الحصى!
- شيء كهذا يمرن الذاكرة والبصيرة، وما أدراك قد يكون هذا الحصى تكلس قلبي. وإذا لم يكن أكون قد تعودت على محاولة البحث وحدي عن شيء حين ضاع ضيعني. وإن مجرد البحث عنه دليل على أنني ضائع طالما لم أجد الشيء الذي أضعته.
تبدو من خلال الحوار فلسفة/ عقيدة الأب التي يريد أن يصبها في ذات الابن، بالعلاقة بالأرض/ الوطن الضائع، وما تستوجبه هذه المرارة الناقعة في ذاته من مشاعر أكثر صرامة مع النفس وشاعرية ورومانسية في الوقت ذاته، فالذاكرة لا يمكن أن تموت، والبصيرة لا بد أن تمتد وتعيش حتى يكون الإصرار على عودة الحق الضائع ديدنا وعقيدة، وإن كان البحث عنه تناوئه رياح عاتية تنخر في الجدر القائمة والمشبعة بالزمان والتاريخ المتعاقب، فها هو الأب يسرد تلك الملحمة التي تربطه بالمكان/ الرمز، وما جبله عليه هذا الإصرار المستميت وما يستجلبه من الذاكرة ما يجعله يتمسك بأمله:
- هذا هو طعم عكا الأول، دائماً أبحث فيها عن شيء لا أجده. فتشت فيها عن أمي، فكانت قد عادت إلى القرية، وبعد سنين فتشت فيها عن حبيبتي، فكانت تزف إلى رجل آخر، وفتشت فيها عن عمل، فكان الفقر يلاحقني، وفتشت فيها عن شعبي فوجدت الزنزانة والضابط الوقح. كانت آخر حدود العالم، وأولى المحاولات والخيبة، وكان سورها يتآكل في الزمن.
فتبدو الإشارات المتوالية دليلاً على أحداث جسام لا يملك لها الفتى ذرعاً، وانكسارات في رموز متوالية، انحداراً إلى خضوع لرمز المحتل في الزنزانة والضابط الوقح بما يفرزه هذا الوجود غير الشرعي للمحتل الصهيوني، الطامس للهوية، والمغير من سمات الأرض وشكلها، والمؤثر على طبيعتها، وطبيعة أسوار متوالية تفرض سطوة وجودها وأثرها، لما للتاريخ من أثر بليغ أيضاً، تلك الوشيجة التي يفلسف بها الأب لمعنى الوطن من خلال تلك الدقائق التي تمر كي تفجر في وعي الابن سؤال الوجود من جديد، ومن ثم إعادة ترتيب الحكاية من خلال جدلية الحوار:
- لأفسر لك أني لا أدافع عن سعادة قديمة، ولا أتغنى بتعاسة ماضية. ليس للعمال وطن؟ ولكن للمحرومين من الوطن وطناً، ومن حسن حظنا - ربما - أن وطننا حق وجمال. إنه لم يأخذ هذا الشكل اللاذع في جماله من إسقاطات حرماننا عليه. إنه حلم في واقعه وواقع في حلمه. نحن لا نشتاق إلى فقر، ولكننا نشتاق إلى جنة، نشتاق إلى ممارسة إنسانيتنا في مكان لنا.
لتأتي إشكالية الوطن هنا مرتكزة إلى مكان/ جنة، المكان هو الأرض، الأرض هي الوطن، في جدلية معرفية بالتاريخ والمكان والحاضر، وتلك الحسرة التي تقطر من الكلام لتلخص وتوجز وترسل إلى بعيد بإشارات تومض أيضاً من بعيد تعيد بها ترتيب القضية على كينونة الراتب اليومي الذي لا يتوقف عن حزنه، ولا تتوقف الأسئلة إيذاناً بناقوس الوجود الذي يقرع كل الأجراس.
- وأنتم ماذا فعلتم بأرضكم؟
- اسأل عما فعلت بنا الأرض؟ قتلت جدي من القهر والانتظار، وشيبت أبي من الكدح والبؤس، وأخذتني إلى الوعي المبكر بالظلم.
***
من يحاكم من؟ ربما برز السؤال مثاراً للتعجب، لتأتي المحاكمة لتميط اللثام، كسمة من سمات واقع محيط جغرافي محصور في داخله ما كان وطناً خالصاً، ليصبح حالة مستمرة من حالات المحاكمة والإدانة اليومية التي تمثل أركاناً متشعبة للأحزان المتوالدة في خضم اليوم العادي، وتتعدد نماذجها لتطرح هذه الحالات صوراً من الواقع العادي والذي أصبح معتاداً باعتياد الإدانة بسبب أو بغيره، كتتبع الأنفاس وحصرها والتحكم في الهواء الذي يتنفسه الفلسطيني على أرضه المغتصبة.
- ضع فاصلة وراء كل تنهيدة، وقل لنا من أنت؟
وحين أفاق من غيبوبته كان دمه قد جف
- أنا من الضفة الغربية
- ولماذا عذبوك؟
- وقع انفجار في تل أبيب فاعتقلوني
- وماذا تفعل في تل أبيب؟
- أعمل في البناء.
تأتي المفارقة الإنسانية، مما تطرحه الحكاية الملتحفة بالحوار، لعامل فلسطيني يعمل في البناء في الكيان المحتل، كي تطرح أمراً بادي المذلة والعار، فكيف تشيد السواعد العربية مجداً جديداً للمحتل، وهو السؤال الذي تطرحه الحالة الإنسانية كما يطرحه التساؤل الفلسفي المر، ليقرن بين الواقع والمفروض والظرف الإنساني/ الاقتصادي وتروس الحياة التي لا يجب أن تتوقف حتى ولو كان رغيف العيش أو لقمة الخبز أمرها في يد المحتل، فأي تعاسة وأي قدرية، ليفرض أكل العيش طقساً من طقوس أحزان/ مرارات اليوم العادي: (ماذا تقول لمن يطرح السؤال بهذا الشكل؟ ليس بوسعنا أن نطحن الأناشيد الحماسية والخطب الحماسية ونعجنها ونحولها إلى خبز) فالسؤال دائماً ممهور بإجابة مسكوت عنها لابد، لأسباب متعددة وأحوال مخزية تكون فيها الحياة في تلك الأجواء مسممة لا يطيقها بشر، وهي السلسلة اللامتناهية من الحوادث/ الأحداث التي تتري على جبين اليوم لتكلله دوماً بالعار لا بالحزن النبيل، وهو ما يأتي أيضاً كالسم الناقع من خلال تلك الحوارية الجديدة:
- من أين أخي؟
- من غزة.
- ماذا فعلت؟
- ألقيت قنبلة على سيارة الغزاة فانفجرت بي..
- و...
- ألقوا علي القبض واتهموني بالانتحار.
- اعترفت طبعاً؟
- ليس تماماً، قلت لهم إن محاولة الانتحار لم تنجح، ولذلك حرروني من الرحمة وحكموا علي بالسجن المؤبد.
- ولكنك كنت تنوي القتل لا الانتحار؟
- يبدو أنك لا تعرف غزة، فالمسألة هناك شيء وهمي.
يأتي منطق التحرير من الرحمة، كبديل لإعدام منتظر ومحتم كنتيجة للدفاع عن النفس والوطن، ومن ثم الإبقاء على حياة الفلسطيني مسجوناً لتتضاعف عذاباته وأسباب حزنه المتواصلة في خضم اعتياد جديد للحياة في أسرين: أسر السجن في الداخل، وأسر المحتل الصهيوني كإطار خارجي أكبر، لتنمو المأساة وتتحول فلسفة المعنى هنا لتأخذ أشكالاً معنوية عديدة تتخذ، ربما شكل الأسئلة والبحث عن حكمة، وكمظهر من مظاهر العيش في إطار من حزن متوالد تُطارد فيه الذات بآلاف التهم لمجرد أنك فلسطيني، ليصبح الحلم، مجرد الحلم جريمة تعاقب بها نفسك!
- أحياناً يلقون القبض عليك وأنت ترتكب الحلم.
- ولو فكرت ملياً لما وجدت تهمة أخرى، فهذه الكتابة وهذه الخطابة ليست إلا مظهراً من مظاهر تجلي الحلم في لغة. ما الفرق إذن في نظر القانون بين الحلم الصامت والحلم الصاخب؟
- كنت تنوي أن تقول كلاماً آخر.
- كنت تنوي أن تفعل شيئاً آخر.
- ويدهشك أنك مستعد دائماً للإجابة عن تهمة لا تعرفها، وإذا لم يتهمك أحد بادرت إلى اتهام نفسك.
- ماذا فعلت من أجل أي شيء؟
- ماذا في وسعك أن تفعل من أجل أي شيء؟
يبدو هذا العصف الذهني النفسي المرير الذي تعتصر فيه الذوات المنشطرة من ذات واحدة مفترضة تحمل عبئاً يكاد يمثل القضية بمغاليقها، يبدو كنظرة في قاع البئر التي ربما انتظر الأب فيها سقوط ضوء القمر في بداية اليوميات الحارقة، والتي لم تنته بأية حال، لتظل تدق على الجدران الصماء التي لا تحمل لها صدى، ولكنها ربما عبَّرت عن نبض الحزن الساري في تضاعيف الحيرة، وكصوت شحيح يتسرب ربما ليعزف لحناً شجي الإيقاع على وتر لا ينقطع. فأي سؤال عن الوطن، وأي فلسفة تضعه في حيز لا وجود له إلا تلك الأرواح التي تعزف على قيثارته في كل مكان ما عدا (الوطن)؟

ذو صلة