مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

دماغ الإنسان والمرونة العصبية

تهدف الطبيعة إلى بقاء أفرادها، يتحقق هذا البقاء من خلال قدرة العناصر المكونة للطبيعة على التغيّر بما يلائم الظروف والبيئة المحيطة، وهو ما نسميه التكيف.
وتتصف الحياة بجميع جوانبها بصفة مهمة وأساسية، وهي الحركة الدائمة. ولا يخفى على أحد أن انعدام الحركة يعني الموت. وانطلاقاً من هذين المبدأين، مبدأ التكيف ومبدأ الحركة، تكوّن دماغ الإنسان العاقل، ويتكون في كل لحظة. فالدماغ كما الحياة، في صيرورة مستمرة، وهذه الصيرورة هي الوقود المغذي لهذا العضو الفريد. يطلق على تلك الحركة المستمرة والتغير الدائم على مستوى الجهاز العصبي للإنسان اسم: المرونة العصبية. ويمكن تعريفها بأنها قدرة الجهاز العصبي على الاستجابة لكل المنبهات الخارجية والداخلية من خلال إعادة تنظيم بنيته وارتباطاته ووظيفته.
تاريخ المرونة العصبية
بالعودة إلى تاريخ الأبحاث المتعلقة بالمرونة العصبية، نستطيع ملاحظة انقسام الدراسات إلى مرحلتين زمنيتين متعاقبتين، وهما: المرحلة الحدسية والمرحلة التجريبية، على الترتيب.
تميزت المرحلة النظرية الحدسية بأنها قائمة على الملاحظة والتفكير فقط، بعيداً عن أية دراسات تجريبية، وذلك من خلال مراقبة التغيرات السلوكية المرافقة للإنسان وشخصيته، تنبأ العلماء بوجود تغيرات عصبية مرافقة للتغيرات السلوكية، وهو ما أثبتته المرحلة التالية التجريبية، وفيها تم إثبات وجود تغيرات حقيقية في الارتباطات العصبية في مجمل الجهاز العصبي، وليس فقط في الدماغ.
على الرغم من استخدام عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد) مصطلح (المرونة) في مرحلة مبكرة تاريخياً، واصفاً التغيرات العصبية الضرورية لعملية التعلم؛ يتفق الكثيرون أن أول من وضع تعريفاً دقيقاً وشاملاً للمرونة العصبية هو (ويليام جيمس)، الطبيب وعالم النفس الأمريكي، حيث قال في كتاب من تأليفه صدر عام 1890: (يبدو أن المواد العضوية تتمتع بدرجة من المرونة، ولا سيما النسيج العصبي). كما افترض في كتابه أن المرونة العصبية تظهر بسبب تكرار استخدام مسارات عصبية محددة، مما يؤدي إلى تغيرات ظاهرية سلوكية في صفات وعادات الفرد.
ومن المثير للدهشة صحة ودقة هذا الافتراض على الرغم من عدم اكتشاف مفهوم المشبك العصبي آنذاك، كما أن نظرية العصبون أو الخلية العصبية لم تكن قد وضعت في وقتها، والتي تنص على أن النسيج العصبي مؤلف من وحدات وظيفية وتشريحية تسمى الخلايا العصبية أو العصبونات. وقد كان للعالم (سانتياغو كاجال) فضلاً كبيراً في وضع أسس هذه النظرية. كما يعتبر كاجال أحد أبرز رواد العصر النظري للمرونة العصبية، حيث تكهن عام 1894 أن عملية التعلم تتطلب وجود روابط جديدة بين الخلايا العصبية. بالإضافة لمن سبق، ساهم عدد كبير من العلماء والمفكرين الآخرين في العصر الحدسي النظري، أبرزهم: (يوجينيو تانزي)، وهو طبيب نفسي إيطالي تأثر بـ(كاجال)، واستلهم منه فكرته البارزة التي وضعت الأساس لاكتشاف المشبك العصبي لاحقاً. واقترح (تانزي) عام 1893 أن الذكريات والمهارات الحركية المعتمدة على الممارسة قد تحدث بسبب وجود تسهيل موضعي للاتصالات أو الارتباطات العصبية. إن مصطلح (ارتباط عصبي) الذي استخدمه (تانزي) يتوافق مع ما تم اكتشافه فيما بعد وأطلق عليه اسم (المشبك عصبي).
ومع انتهاء الحقبة النظرية، وبداية عصر التجربة؛ اتجه العلماء نحو إجراء تجارب تجعلنا قادرين فيما لا يدع مجالاً للشك على أن نفهم المرونة العصبية فهماً قائماً على الدليل العلمي.
ساهم في المرحلة التجريبية عدد كبير من العلماء اللامعين، وتم إجراء الكثير من التجارب العملية، كان أكثرها بروزاً تجربة العالمين (ديفيد هوبل) و(تورستن فيزل) اللذين نالا على إثرها جائزة نوبل في الطب عام 1981. ويمكن اعتبار تجربة (هوبل) و(فيزل) واحدة من أكثر التجارب إلهاماً، حيث استطاع هذان العالمان العظيمان بتجربة واحدة فقط أن يحققا نجاحاً غير مسبوق في الوسط العلمي. يمكن اختصار هذه التجربة بالشكل التالي: قام العالمان بإجراء الاختبار على مجموعة من القطط حديثة الولادة، حيث قاما بتغطية عين واحدة لكل قط وتركا العين الثانية بلا تغطية. واستمرا في هذه التغطية لعدة أشهر، ومن ثم راقبا التغيرات التشريحية في المناطق المسؤولة عن البصر في أدمغة القطط الصغيرة، كما لاحظا التغيرات السلوكية للقطط. وكانت النتائج أن حجم وارتباطات الخلايا العصبية في المنطقة الدماغية البصرية التابعة للعين المغطاة أقل بكثير من حجم وارتباطات الخلايا العصبية في المنطقة الدماغية للعين المبصرة. وحين نقلا بعد ذلك الغطاء من العين المغطاة سابقاً إلى العين المبصرة، أي فتح العين المغمضة وإغماض العين المبصرة، أصبحت القطط تسلك سلوك العميان على الرغم من أنها ليست كذلك. وبإعادة نقل الغطاء مرة ثانية إلى العين التي كانت في الأصل مغطاة، أصبحت القطط مبصرة من جديد.
إن التغيرات التي طالت الخلايا العصبية في المنطقة الدماغية المسؤولة عن البصر ليست إلا مثالاً واضحاً على المرونة العصبية. حيث إن عملية البصر المحرضة بفوتونات الضوء الساقطة على شبكية العين توقفت، وفي عمر مبكر جداً، وبذلك لم تتطور الخلايا العصبية نتيجة انعدام التنبيه وبقيت على حالها كما هي بعد الولادة. في حين أن الخلايا النظيرة المتعرضة للتنبيه استطاعت بناء ارتباطات عديدة وزاد حجمها نتيجة زيادة تعقيد وظيفتها في كل عملية إبصار جديدة. مع ملاحظة أن إجراء نفس التجربة عند القطط البالغة لا يؤدي إلى نفس النتائج، حيث إن عامل العمر المبكر مهم وحاسم، مما يشير إلى أن المرونة العصبية تصبح أقل مع تقدم العمر. وهناك من كان يعتقد أن المرونة العصبية تتوقف كلياً بعد مرحلة عمرية معينة. ساد هذا الاعتقاد في ستينات القرن الماضي، وسميت الفترة التي تتوقف فيها المرونة بالفترة الحرجة. لكن سرعان ما تغير هذا الاعتقاد في السبعينات، وأصبح الرأي العام أن المرونة العصبية تكون في أوج نشاطها عند الأطفال، وتقل نسبياً بتقدم العمر، لكن لا تنعدم، حيث لوحظ أن المسنين لديهم مرونة عصبية أيضاً، ولكن بدرجة خفيفة، تم التأكد من ذلك عبر دراسة المرضى المصابين بآفات دماغية، حيث تبين أن المرحلة التالية للإصابة باحتشاء دماغي مثلاً تتميز بوجود نشاط واضح للخلايا العصبية السليمة، كمحاولة للتكيف مع الإصابة بتشكيل ارتباطات أغزر، أي أن موت مجموعة من الخلايا العصبية يزيد العبء على الخلايا التي لا تزال حية، وذلك بهدف الحفاظ على أفضل وظيفة ممكنة في ظل الظرف الراهن.
بيولوجيا المرونة العصبية
يحتوي دماغ الإنسان العاقل على بليون خلية عصبية تقريباً، كما يحتوي على حوالي ألف بليون ارتباط أو مشبك عصبي. هذا العدد الكبير من الخلايا والعدد الأكبر من الارتباطات هو الأساس لكل عملية دماغية أو عقلية. حيث يوجد وراء ذلك وظائف في غاية الأهمية كالإدراك والتعلم والذاكرة والتفكير والعاطفة والسلوك وغيرها. وقد بينت الدراسات المختلفة أن البنية العامة للجهاز العصبي تكون منظمة وراثياً أو جينياً، أي شكل ومناطق الدماغ المختلفة، والتي يشترك بها النوع بشكل عام؛ تخضع لتأثير الجينات بشكل كبير. في حين أن الارتباطات بين الخلايا العصبية تكون على علاقة وثيقة بالبيئة المحيطة، بمعنى أن الارتباطات العصبية والتي هي أساس المرونة العصبية قليلاً ما تعتمد على الوراثة، وإنما على المحرضات الخارجية المحيطة بالكائن. يطلق على التجربة التي يحدث خلالها تغير في الارتباطات المشبكية بين الخلايا العصبية اسم المرونة المشبكية، وهي ليست إلا اسماً آخر للمرونة العصبية.
أصبحت الأبحاث المتعلقة بالمرونة المشبكية في السنوات الأخيرة متطورة إلى درجة أصبحنا قادرين على تحديد العمليات البيولوجية الخلوية والجزيئية الكامنة وراء ظاهرة المرونة المشبكية، كدراسة الحويصل المشبكي والنواقل العصبية والالتصاق الخلوي والتعبير الجيني عن الكثير من الحوادث التي تجري في المستوى داخل الخلوي. ولقد ساهم هذا التطور في زيادة فهمنا للكثير من الأمور المتعلقة بالتكوين النفسي للفرد، كما اتسع فهمنا لدور الجينات ودور البيئة في تكوين شخصية الإنسان، وتقدمت معرفتنا بخصوص الكثير من الأمراض والاضطرابات العصبية والنفسية.
تعتبر المشابك العصبية نقطة الاتصال الوحيدة المكتشفة حتى اليوم التي تستطيع الخلايا العصبية بواسطتها الاتصال ببعضها، وإن المشبك كغيره من المكونات العضوية، يتصف بالحركة الدائمة. يمكن فهم مصطلح (المشبك) بشكل أفضل حين ننظر له على أنه عملية مستمرة وليس شيئاً ثابتاً. حيث يعمل من خلال سلسلة متعاقبة من المراحل والتفاعلات الكيميائية الحيوية، والتي بزوالها يزول المشبك، ومن هنا يمكن القول إن المشبك العصبي هو العملية التي تتصل من خلالها الخلايا العصبية ببعضها، أكثر مما هو منطقة أو مكان.
ولا يمكن ذكر المشبك العصبي دون التطرق إلى النواقل العصبية، وهي المواد الكيميائية التي تؤمن التواصل بين الخلايا العصبية، أي أن كل خلية عصبية تتصل مع الخلية المجاورة من خلال النواقل العصبية التي يتم إفرازها والتقاطها في المشبك العصبي. وعلى سبيل التبسيط، لو تخيلنا أن الخلايا العصبية بشراً، تكون النواقل العصبية هي اللغة التي يتواصل البشر مع بعضهم من خلالها، ويكون المشبك هو الفم الذي ينطق والأذن التي تسمع. وإن عملية تحرير الناقل العصبي بحد ذاتها عملية في غاية التعقيد والتنظيم، وتحمل في طياتها مجموعة من المراحل المتعاقبة، ومجموعة من الاحتمالات والأحداث البيولوجية، والتي تحتاج لكتب ومجلدات كاملة لشرحها.
خلاصة
يعتبر الجهاز العصبي للإنسان جهازاً متفرداً شكلاً ووظيفةً، وتعتبر المرونة العصبية واحدة من أكثر السمات المميزة لهذا الجهاز، والغاية من وجود هذه المرونة، جعل الدماغ، وبالتالي الإنسان؛ أكثر قابلية للتكيف مع المحيط. يساهم هذا التكيف بدوره في وظائف لا حصر لها، كالتعلم والذاكرة والغريزة وغيرها. ولولا المرونة لما استطعنا حفظ أي خبرة مفيدة، وكذلك لما استطعنا نسيان الذكريات والأحداث المؤلمة. وبفضل هذه المرونة، تم تطوير تقنيات ووسائل لعلاج العديد من المشكلات والاضطرابات، كالإدمان والاضطرابات النفسية. وإن مدارس العلاج النفسي المختلفة، والتي تقوم بصورة عامة على تغيير المرء لعاداته وطريقة تفكيره، ومن ثم سلوكه ونمط حياته، قائمة جميعها على مبدأ المرونة العصبية. ويبدو أن دماغ الإنسان، كأي عنصر آخر من الطبيعة، عضو دائم الحركة، لا يهدأ أو يستقر، ولا يعرف سكوناً، سوى في حالة واحدة، هي الموت.

ذو صلة